تفاهة القياس.. جرِّب أن لا تقيس
ادريس هاني
– سنكون حتماً، يوماً ما، تحت قهر الذّكاء الصناعي، سيجبرنا من خلال التّحكم به واحتكاره على الخضوع لمنطق الخوارزميات نفسها التي جُبل عليها برمجيّاً. سيكون الذكاء المدعو صناعياً كلب حراسة ضدّ الابتكار والثورات العلمية.
نشأت التقنية في سياق وشروط السيطرة، انتهى عصر تعميم المكاسب، فالرأسمالية تحتاج إلى عبيد لا إلى أحرار. الحرية نفسها سيحددها الذكاء الصناعي طبقاً للبرمجة، أن تكون حرّاً، أن تتمكّن من الاستيلاب في شروط وأنماط السيطرة الجديدة: إكراهات العصر، إكراهات يفرضها النمط الجديد للسيطرة.
– وحيث لا زال الحديث عن العقل وعوائد القياس، فإنّ البشر تراهم يَمِطّون في المقدّمات الاستدلالية راكبين متن الإنشاء إطناباً وتفريعاً، ولكن ما أن يبلغون الوسط الذي به تثبت الكبرى للصغرى في القياس المنطقي الصحيح، حتى يلوذوا بالخفّة والنّط ، ويحجبون ماهية الوسط بالسامح في أدلّة البرهان، ويختصرون القول في ماهية العلّة.
– في التّآمر على الذّهن البشري نلاحظ كلّ معرّات القياس، وكأنّ القياس وباء للفتك بالعقل وشلّه، حيث ماذا لو فكرت البشرية عبر الاستنتاج الصحيح؟.. إنّ القياس الذي يحرم البشرية من ثورة العقل العُظمى، يوحي لحامله أنّه ليس في الإمكان أبدع مما كان. إنّ العقل لحظة تمرده على خدعة القياس، يتمرّد على قيد اللغة أيضاً، على لعبتها، على استقلال الملكات في أدائها خارج دينامية التركيب الخلاّق.
– لو أحصينا انقلابات العقل خلال تاريخه المديد، سنجد أنّها نادرة مهما أظهرها الخيال فائقة. إنّ تاريخ العقل القياسي هو تاريخ إخفاقات لا انتصارات. إنّ المغالطة هنا تسعى لتصوير بعض من تلك الانجازات بطرق عاطفية تشويقية خادعة تقوم هي الأخرى على لعبة المقارنة والقياس: قياس ما كان على ما هو كائن، لكن اللاّمُفكَر فيه هنا هو:
ما هي الاحتمالات العظمى التي أخفق فيها العقل (القياسي)؟
ما الذي كان عليه إنجازه ولا يزال يترنّح داخل ندرة الاستنتاجات وداخل جهل اللاّقياسية؟
ما هي المسافة الزمنية بين نموذج وآخر؟
إنّ بنية الثورات العلمية تُركِّز على لحظات تسلط الباراديغم ولحظات استسلام العقل القياسي ما لم يستنفد هذا الخداع أغراضه، لندخل في خدعة أخرى، وكل ذلك خوفاً من المخاطرة داخل متاهة العلم، كأطفال متمترسين بفضولنا. حتى الآن أظهر العقل (القياسي) قدرة فائقة على إخصاء الحدس بوصفه عدوّ القياس.
– خطاب «أن تعقل» لم يعد كافياً لإنقاذ الإنسان، بل «كيف تعقل» هو الفريضة الغائبة، لإنقاذ العقل أوّلاً. والأنسنة كما قلنا، تتوقّف على اكتشاف الشروط الحقيقية لنهضة الماهية الإنسانية، ألا وهو اكتشاف لحظة الحدس الكبرى. إنّ الأنسنة التي تبحث عن الخلاص في عقل عاجز عن الفعل خارج مُغالطة القياس، هي خدعة أخرى في نادي القمار الجماعي و«صواليّ» التكرار وإعادة إنتاج المُغالطة والعزف المتحاذق على العواطف البليدة.
– ليس كافياً أن تكون مثقفاً لكي تكون عاقلاً، لا يمكن أن تكون عاقلاً في غياب ثورة الحدس على الأشكال الهجينة لبراهين مغالطة بها يحيا قطيع الأنام، المثقف عنوان فضفاض منذ ابتكره كليمونصو في جريدة الفجر(L’Aurore)، إنها خدعة حين تمنح الصحافة سمات جديدة، وهي بذلك منحت المثقفين صفة القبيلة. وبالفعل كما ذهب ريجيس دوبريه: لا يمكن أن نكون مثقفين مدى الحياة.
– أبحث عند عوام النّاس عن العقل والمعقول، لأنّ ميزة هؤلاء أنّ لديهم مساحات ظلّت مستعصية على الباراديغم العلمي، لعلّ بعضاً من الحدس لا زال يقطن مسارب فكرهم اليومي. ومع ذلك، وهذا هو الأمل، العقل في وضعيته المأساوية لا يستسلم، هو يوزّع مفاتيحه هنا وهناك، ستتحوّل إلى ألغام تفجّر البنيات الهشّة لتمعقلاتنا القياسية. إنّ عوائد العقل القياسي هي الفعل الأسهل من كل فعل للملكات الأخرى، إنّه أسهل من أن تحتمل الأشياء في الخيال، إنّ مثل هذا الصنيع، يكفينا فيه الذكاء الصناعي. سيأتي يوم تنتفي الحاجة إلى المثقف، طالما هو عاجز عن أن يأتي بما لا يأتي به «شات جي بي تي». خطر اختفاء المثقف ليس ناتجاً فقط عن تحوّلات موضوعية في العالم، بل هو ناتج عن عوائد القياس الفتّاكة، تفاهة القياس التي تكمن في شموليته وقدرته على خداع البشرية ولا يزال.