مثقفو طرطوس يحتفون بالباحث الراحل أحمد غانم

طرطوس- ثناء عليان:
تكريماً وتقديراً للباحث أحمد غانم أقامت مديرية الثقافة في طرطوس في الذكرى الأولى لرحيله ندوة فكرية بالتعاون مع أصدقائه وإدارة الدكتور فواز حسن.

منظومة القيم
بدأت الندوة بعرض فيلم قصير عن الراحل وأهم أعماله ومؤلفاته التراثية والفلسفية، ثم تحدث أصدقاؤه عن أعماله وكانت البداية مع صديقه ولي الدين السعيدي المقيم في فرنسا الذي تحدث عن بداية تعارفه بالراحل من خلال قراءة تلاها نيابة عنه الأديب رافع الزمام قال فيها: إن الحديث عن أحمد غانم الإنسان يتطلب منا معرفة منظومة القيم التي تشكّل شخصيته، وهي عنده متشعبة وفي سيرورة دائمة؛ لأن الإنسان الذي نتحدث عنه ليس منضوياً تحت سقف المنظومة القيمية المعتادة دون تفكير وتمحيص وحركة تسعى إلى تطويرها وتجاوُز ما هو سلبيٌّ، والسعي لإبراز الجانب المشرق والبناء عليه في عملية خلق دائمة لكل ما يطوِّر ذواتنا وإنسانيتنا.
فالقيم العائلية تشكل ركيزة أساسية عند غانم للتطور في تقبُّل الآخر الذي نرى فيه صورتنا كما نأمل أن تكون، فتصبح بذلك منظومة المشاركة المجتمعية المنفتحة على آفاق المعرفة والمناقشة الجادة في الاحترام المتبادل بيننا وبين الآخرين؛ بذلك تصبح منظومة القيم المجتمعية والوطنية منظومة منفتحة لا تقبل الركود والرضوخ بل تطمح إلى تطوير القيم الوطنية لدفعها إلى خلق فضاء فكري من خلال السعي إلى المزيد من الحرية الفردية الفكرية، وتبادل الأفكار وسماع رأي الآخر وتثمينه، وإنْ كان مختلفاً عن رأينا.
وتطرق السعيدي لبداية تعارفه بالراحل التي بدأت بأواخر السبعينيات من القرن الماضي عندما كان مدرّساً للغة الفرنسية والباحث غانم مدرّساً للفلسفة، في إعداديات طرطوس وثانوياتها، وقد تطوّر تعارُفُهما إلى صداقة في القول والفعل من خلال مشاركاتهما العديدة في مجالات خدمة المدينة التي ترعرعا فيها، وفي مجالات خدمة المؤسسات الوطنية بغية انتقاء الممثلين الأفضل للمشاركة في دفع عجلة التطور إلى الأمام.

ناشطاً فيسبوكياً
بدوره تحدث أحمد علي محمدّ عن لقائه بالأديب غانم عبر الفضاء الأزرق، الذي قرّب المسافات، وأزال الحواجز، وألغى الحدود ليتحول العالم من خلاله إلى قرية صغيرة بكل ما للكلمة من معنى.
ولفت إلى أن أحمد غانم بوصفه مثقفاً وباحثاً لم يكن حيادياً أو لا مبالياً تجاه الفيسبوك، بل نظر إليه وتعامل معه بوصفه وسيلة هامة للتفاعل الثقافي مع الآخر، وبالتالي لتكوين رؤية موضوعية عن الذات عبر رؤية الذات في مرآة الآخر، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فقد وجد في هذا المنبر المفتوح زمانياً ومكانياً نافذة لنشر أفكاره وآرائه أمام شريحة واسعة من المهتمين والمتابعين ما كان بالإمكان الوصول إليها لولاه، فانطلق بجرأة المثقف النقدي وتواضعه للنشر والتفاعل والنقد منطلقاً من ركيزة فكرية وثقافة أكاديمية واسعة، لنجد صفحته وقد تحوّلت خلال فترة وجيزة إلى منبر للحوارات والنقاشات، ما جعلها تستقطب خيرة الكتّاب والمثقفين السوريين.

لغته قابلة للفهم
وطرح أحمد غانم عبر صفحته الكثير من الأفكار والموضوعات الفلسفية والاجتماعية والسياسية والأدبية والفنية والتاريخية؛ إذ استطاع بأسلوبه الرشيق ولغته الاثّرة تطويع المفاهيم والمصطلحات الفلسفية وتقديمها بلغة مبسطة وقابلة للفهم لغير المختصين في المجال الفلسفي من المهتمين والمتابعين مثل: مفاهيم الوجود، واللا وجود، والعدم، والصيرورة، والزمان، والمكان، والحتمية، والضرورة، وغيرها من المفاهيم الفلسفية الأخرى.

الكنوز الفلسفية
كما قدّم حسن محمود قراءة بعنوان: “من رؤية لكنوز الفلسفة إلى رؤية جديدة للفلسفة”، بيّن فيها كيف اجتهد الراحل غانم بإصدار سلسلة سمّاها (سلسلة الكنوز الفلسفية)، بدأها بأرسطو طاليس 384- 322 قبل الميلاد، معترفاً أن أرسطو يمثّل ذروة الفكر اليوناني وأنه قمة في هذا الصدد يصعب تجاوزها كلياً حتى بالنسبة للمحدثين، ويقول: إن تناول هذا الفيلسوف جرأة كبيرة لا أدعيها فهو يمثل ذروة الفكر اليوناني والفكر العالمي القديم وبخاصة الفلسفة منه

رؤية فلسفية ميتافيزيقية
وتطرق محمود إلى كتاب (المقدمة – رؤية فلسفية ميتافيزيقية جديدة) لأحمد غانم ويبحث في قضايا ومشكلات هي في الأصل فلسفية إلا أنه يعالجها من منظور جديد وبمنهج جديد يصحح الكثير من المفاهيم الخاطئة التي تثبتت في الأدبيات الفلسفية منذ قرون ويتناول الوجود وكيف نفهمه كما يناقش دور اللغة والفكر في الكشف عن الوجود، ويتناول الوجود والعلم وأهمية الميتافيزقيا في العلم والكشف الحقيقي عن الوجود.. كما يعيد النظر في المصطلحات التي أسيء استخدامها فيرى أن العدم قضية زائفة وأن التوحيد بين مفهومي اللا وجود والعدم هو خطأ معرفي في أصل الكثير من الناس والفلاسفة ويبرهن على أن اللا وجود هو مصدر الوجود، مؤكداً ضرورة طباعة هذا الكتاب لأهميته فهو يشابه كتاب ابن خلدون (المقدمة) في الأهمية كما قال أحد المطلعين.

أحمد غانم الإنسان
القاص عدنان محمد بيّن أن الراحل قد تشرّب الفلسفة حتى باتت تسري في دمه، وتأبى إلا أن تظهر في كلامه وفي سلوكه وفي نمط حياته، وفي رؤيته للعالم.
وأضاف: أستطيع أن أقول جازماً: إن أحمد غانم الإنسان قد اتّخذ مبدأَ السخرية الجادّة – السخرية المريرة- من كل شيء طريقاً.. نعم، كانت السخرية اللاذعة هي فلسفة أحمد غانم في الحياة.. وسوف نجد ذلك جلياً في مجموعتيه القصصيّتين، حيث صدرت المجموعة الأولى “عن الكلاب وقيصر” سنة 1995، وهي تحوي عشر قصص قصيرة، والثانية بعنوان “ثلاثية جدل” رواية بقالب القصة، وعنوان الجزء الأول منها “عذابات أبي بديع”، فقد صدرت سنة 2000، وبالتحديد في الشهر العاشر، أي بُعيد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في 28 أيلول، على أثر استشهاد الطفل محمّد جمال الدرّة.

مداواة الأسى المزمن
بدوره تحدث الكاتب والمترجم أحمد م أحمد عن العلاقة التي جمعته بالراحل أحمد غانم وتأثره به، إذ قال: كنتُ قارئاً صغيراً، وكان الراحل القارئَ الكبير الذي يجيب عن أسئلتي الكثيرة، ويقترح عليَّ رواياتٍ وكتباً شكّلت الوعيَ الأول لديّ، وعززتْ موهبةَ الكتابة الوليدة في ذلك الحين.. وأضاف: أحمد غانم لم يكن صديقي الكبيرَ فحسْب، بل كان الملاذ، والمُصْلِحَ لكل عطبٍ بُنيوي في تكويني الهشِّ الحائر، وكان الأخَ الكبير الذي لم يتوانَ لحظةً عن مدِّ يدِ العون لي، وعن مداواة الأسى المزمنِ الذي رافقني على امتداد عمري، وأنا أطرقُ الآن أبوابَ السّتين.

معالج الجروح العتيقة
ويتابع: أمضيتُ عشر سنواتٍ خارج البلاد. وكان النّذرُ الوحيد الذي نذرتُه: أن أقبّل يده حين أعود، وقد فعلتُ ثم كان النذرُ الثاني أن تكونَ النسخةُ الأولى التي ألمسها من أولِ كتاب أترجمُه، أو أكتبه ليديه، وقلبه، وعينيه اللتين ترقرقتا حبّاً وفخراً بتلميذه الذي لم يتوقف عن إهداء أستاذه النسخَ الأولى من الكتب الكثيرة التي نُشرتْ فيما بعد، وفي حال وجود حبيبةٍ ما في حياتي، أعترف له مازحاً: “إنها النسخة الثانية، الأولى ذهبتْ إليها”، ويردّ: “من الخطأ ألا تكون الأولى لها”.
وبتأثر يضيف المترجم أحمد، لا أعرفُ قيمةَ ما كتبتُ وترجمتُ. لكنني أقول لكلِّ مَن عرفتُ: “أحمد غانم وراء كلّ كتاب، لأنه هو الذي صنعني”؛ هو مَن حَدَّ من عدميتي، وشدّني إلى الحياة، وتفهّمَ ضعفي، وعالج جروحي العتيقة، وسَدَّ فجواتيَ المعرفية الخطيرة، فمع كلِّ جلسةٍ وكلِّ كأس متة كنتُ أتغير، وأغدو أكثر سعادة ومعرفة، وأقول في سرّي: “كأني قرأتُ رفّاً في مكتبة”. وذات يوم قلتُ له، وأنا أقدِّم إليه نسخة من ترجمتي لكتابٍ أفتخر به هو (المكتبة في الليل) لـ ألبرتو مانغويل: “يا أبا إياس، أنت مكتبتي الأولى”.

أزمانه وأوجاعه
لم يكن أحمد عبد الحميد غانم (1951-2022) صديقاً بالنسبة لأحمد عزيز الحسين فحسب، بل كان باحثاً وطنيّاً شريفاً كافح من أجل وطن مزدهر ومعافى.
وبيّن الحسين أن الراحل كثيراً ما هفا إلى خلاص وطنه المفجوع من أزماته المستفحِلة، واجتهد في تحديد أزماته ومواجعه، وواجَه القوى الحريصة على إبقائها واستِفْحالها معاً، ولَم يكتفِ بإنزال الفلسفة والفكر إلى أرض الواقع، بل حرص على توظيفهما في قراءة مظاهره ووقائعه، رابطاً بين الظّاهرة الواقعيّة وقوانينها الموضوعية وتجلّيها بهذا الشكل أو ذاك، وباحثاً عن الآليّة المُجدِية التي تضمن لنا فهمها وتحليلها بأفضل شكل ممكن.

قيم جمالية
ولفت إلى أن أحمد غانم جسّد من خلال سلوكه العمليّ ما ينبغي أن يكون عليه المثقَّف الوطنيّ النّزيه الذي يهتدي بقيم جماليّة ومثل عليا تضمن له أن يُموضِع أحلامه في تربة الواقع الذي يعيش فيه، ويجني رزقه بيديه، ولا يُضطَّرُّ إلى الانحناء أو الطّأطأة أو تقديم تنازلات عمّا آمن به، وجعله سقفاً له في حياته الفكريّة والعمليّة، وهكذا اضطُّرّ إلى أن يكون النّاشر والقارئ والمصحِّح وعامل الطّباعة والمخرِج الفنّيّ معاً في دار نشره الصغيرة التي وفّرت له الاستقلال الماديّ بشقّ النّفس..

جدل فكري
ويُلاحَظ على مجمل ما كتبه حضورُ الجدل الفكريّ الخلّاق بمعناه العميق، وغيابُ السُّخرية المبطَّنة أو الظّاهرة ممّن كان يناصبهم العداء، أو يختلف معهم فكريّاً أو أيديولوجيّاً، كما نلحظ غيابَ العنفِ اللّغويّ المكتظّ بعبارات الإقصاء والنّبذ، والانشغال عميقاً بالتّأسيس لمنهج فكريّ رحب ومرن يتّسع للأنا والآخَر معاً، وقد ترك بين أيدينا، قبل رحيله الجزء الأوّل من مشروعه الفكريّ والفلسفيّ الذي حمل عنوان (رؤية فلسفية / ميتافيزيقيّة جديدة في اللّا وجود والوجود والعدم)، والمأمول أن يجد هذا الجزء من مشروعه الاحتفاء الذي يستحقه إذا قيِّض له رؤيةُ النّور قريباً.

مفكر غيور
الأديب والمترجم شاهر نصر قال مخاطباً الراحل: أيها المفكر الوطني الغيور، لن تضيع جهودك وجهود أبناء جيلك، وخير دليل على ذلك هذا الاهتمام الذي يبديه أبناؤك وأصدقاؤك في إحياء مشروعكم التنويري الوطني النبيل… فضلاً عن أنّه لا يمكن لمخزون الطاقة الإبداعية، والأفكار الإبداعية أن يتبدد ويضيع سدى، أو يفقد أهميته المستقبلية، إنّما ما نعيشه يُعرف بمُكر التاريخ، إذ يجري عبر مجموعة متنوعة السبل، يضيق فيها الوعي تارة، ويتسع تارة أخرى، ويتغلغل في أعماق الذاكرة الإنسانية، كأنّه يختفي من السطح، إنّما لا بدّ أن ينهض ويعبّر عن نفسه من جديد، لا يمكن أن تتلاشى الثقافة الإنسانية، إنّها خالدة، ما دام الإنسان يبحث عن مغزى الحياة.. وستستمر البشرية تبحث، وتبحث، بانتظار خرق تقني علمي ينفض كلّ هذا العفن عن كاهلها، وتلعب الأفكار والثقافة التنويرية دورها.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار