مهن متوارثة تسبب خجلاً اجتماعياً لوارثيها… تقديس “البريستيج” والتفاخر الوهمي سببه العقوق أم خلل في التربية؟..

تشرين – دينا عبد:
لا داعي لحضوركم حفل تخرجي ولا إلى الذهاب معي أو حضور أي مناسبة اجتماعية.. عبارات تختصر حالة الخجل الاجتماعي الذي يشعر به الأبناء تجاه والديهم سواء كان سلوكهم أو آراءهم أو ملبسهم أو حتى مهنتهم.. فهل ينبغي على الأهل أن يقوموا بعمل تحديث على حالتهم (update) ليتماشوا أو يليقوا بأبنائهم؟
حالات
نشأت في بيئة متواضعة، والدي كان حارساً لأحد الأبنية، لا أنكر أنني كنت أشعر بالحرج من مهنة والدي عندما كنت صغيراً وخاصة أمام زملائي في المدرسة، بهذه العبارات تحدث ( يونس) الذي أصبح اليوم مهندساً ويشرح: إصرار والدي على تأمين لقمة العيش لي ولإخوتي جعلني أفتخر به ولولا عمله لما أصبحت مهندساً.

د. علي: فجوة الأجيال سبب لعدم التفاهم أو التواصل التام بين جيل الآباء وجيل الأبناء

وكذلك (هدى) 20 عاماً التي تحدثت لـ”تشرين” عن أن عمل والدها كان سبباً في تضييع فرصة زواج مناسبة كادت تتم، لكن في اللحظات الأخيرة فشلت حين سأل أهل الشاب المتقدم عن مهنة والدها وعرفوا أنه عامل نظافة، ومنذ ذلك الحين وكل من يتقدم لخطبتي أقول له إن والدي عامل نظافة أفنى عمره كي نعيش أنا وأخواتي وأفتخر به أمام الجميع.
فما السبب الذي يدفع الأبناء إلى إنكار مهن آبائهم؟ وهل يعد خجلهم جزءاً من إنكار المعروف بالتربية؟ ولماذا ينظر المجتمع إلى هذه المهن نظرة دونية تحطّ من قيمة ممتهنيها؟
التربية السليمة هي المفتاح
الدكتورة سمر علي (علم اجتماع) جامعة دمشق بينت أنه من الطبيعي دائماً أن تكون فجوة الأجيال سبباً لعدم التفاهم أو التواصل التام بين جيل الآباء وجيل الأبناء، لكن ذلك لا يعني الشعور بالعار أو السخرية من مهنتهم أو حالتهم المادية، فلولا استنزاف الأبناء لكل قطرة عرق من جبين الآباء لما تمكنوا من دخول الجامعات وشراء الملابس وأجهزة الموبايل الحديثة.
في المقابل نجد فئة أخرى من الأبناء تتمتع بحسٍ أخلاقي ووعي اجتماعي كاف للشعور بالكبرياء والفخر بآبائهم مهما كانت مهنتهم متواضعة، فتحمل تلك الفتاة باقة أزهار كبيرة لأبيها عامل النظافة وتطبع قبلة امتنان وإكبار لتعبه وإرهاقه طوال سنوات عمره في العمل المرهق في سبيل أن تتخرج ابنته من الجامعة، هي الجامعة نفسها التي تخرّج فيها الطبيب الذي مازال يطلب مصروفه خلال تخصصه من والده الموظف ويخفي عن زملائه عمل والده المتواضع، بل لا يشاركه حتى قرارات مصيرية كالخطبة والزواج إلا من الناحية المادية.
وهنا نسأل: ما السبب؟ هل هو سوء تربية.. أم عقوق.. أم فشل الآباء في تربية الأبناء كما يجب؟
حقيقة، إن تنشئة الأبناء على ضعف الثقة بالنفس والتذبذب في السلوك الاجتماعي وتقديس البريستيج والتفاخر الوهمي على حساب الحقيقي كل ذلك يجعل الأبناء يرغبون في إخفاء واقع أسرهم لاسيما مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وتأثيرها العميق في حياة الشباب ورغبتهم بالظهور ضمن إطار وهمي وفلاتر مثالية لا تمت للحقيقة بصلة، والكلام لـ د. علي، فالتربية السليمة التي تبني علاقة قوية بين الأبناء والآباء وتعزز الاحترام والثقة وعدم النكران هي المفتاح في تشكيل شخصية متزنة لدى الأبناء تمكنهم من مواجهة العالم كما هي بلا فلاتر ولا خجل، فالمهن الشريفة بدأت في الأصل بسيطة جداً, ومنها تطورت جميع الأعمال الكبيرة, وبذلك لا يفترض لأي شخص بأن يخجل من مهنة والده مهما كانت, ومن المؤسف أن نرى أبناء يخجلون من عمل آبائهم, ومن المحزن شعور الأب نفسه حين يعلم بأن أبناءه الذين سهر وتعب من أجلهم ينكرون فضله ويخجلون منه، فقط لأنه حاول أن يكون أباً شريفاً، فالتقاليد الاجتماعية وغياب الإيمان الحقيقي بقيمة العمل أياً كان هي من الأسباب المهمة لتفشي ثقافة العيب من بعض المهن، فهناك الكثير من المهن لا يزال المجتمع ينظر إليها بانتقاص وازدراء, فالوظائف البسيطة كعامل النظافة ومصلح الأحذية والنادل كلها وظائف مثلها مثل غيرها نحتاج إليها وتستحق منا التقدير والاحترام.
نصائح للأهل
بدورها اختصاصية الصحة النفسية الدكتورة غنى نجاتي بينت أن هناك قوالب اجتماعية مهنية داخل مجتمعاتنا تفرض على بعض المهن نوعاً من أنواع السلطة والهيبة ونوعاً من القبول بغضّ النظر عن أن يكون صاحب هذه المهنة فعلاً لديه الكفاءة الأكاديمية حتى يستحق هذا اللقب أم لا.

د. نجاتي: هناك قوالب اجتماعية داخل مجتمعاتنا تفرض نوعاً من السلطة والهيبة لبعض المهن

مثلاً مجتمعنا يقدس مهنة الطبيب وينظر إلى الأعمال المهنية على أنها مرتبة ثانية مع العلم (الأعمال المهنية) بحاجة إلى إبداع وفكر ووقت وجهد مثلها مثل طبيب الأسنان والصيدلي، وأشارت إلى أن أبرز المشكلات النفسية التي تنجم عن الخجل من مهنة الأب هي زعزعة الثقة بالنفس, لذلك يجب أن يهتم الأهل بوجوب بناء علاقة قوية ومتينة مع أطفالهم منذ الصغر وتوجيههم بأسلوب معين قائم على احترام المهن، وتوعية الطفل بأهمية تقدير والده الذي رضي بالعمل في تلك المهنة المتواضعة من أجل راحته وتوفير الحياة الكريمة له ولإخوته.
وأشارت نجاتي إلى أن خجل الأبناء من مهن آبائهم في حال مزاولتهم إحدى المهن الحرفية أو إحدى المهن المتدنية يعود لنظرة المجتمع الدونية إلى أصحاب هذه المهن التي تولدت أصلاً من التربية الأسرية الخاطئة التي لطالما فضلت الأعمال الإدارية والوظيفية على الأخرى الحرفية والمتدنية من حيث التقييم في المجتمع، فالابن في مرحلة الطفولة المبكرة والمتوسطة يعدّ نجاح أهله انعكاساً لنجاحه وعمل والداه هو انعكاس لشخصيته، لذلك نراه يفتخر بعمل والديه فيقول على سبيل المثال والدي طبيب ووالدتي مهندسة، فالأبناء في هذا العمر يستمدون ذواتهم من أهاليهم والأهل بالنسبة للابن يمثلون الذات المحورية والجوهرية له.
وحتى الآن هناك مهن شريفة جداً ومشرفة، لكن إلى الآن تتم معاملتها بطريقة غير لطيفة مثل (العمل في المنازل) فيجب أن يتقبل المجتمع هذه الفكرة، لكن فئة المراهقين على وجه الخصوص يكونون خجولين من مهن أهاليهم وخاصة إذا لم تكن مقبولة اجتماعياً مثل المهن اليدويه نجارة – حدادة- تصليح أحذية.
وأخيراً: نتمنى أن يعي هذا الجيل أن كل من لديه أم وأب هما يعملان من أجل تأمين احتياجات أولادهما الأساسية بغضّ النظر عن نوع المهنة ومستوى القبول وتقدير الأهل حتى عندما يقتحم الأولاد الحياة العملية يدركون أن ما كان يقوم به أهاليهم لتأمين حياة كريمة لهم ليس سهلاً لأن العمل هو المدخول الاقتصادي الوحيد للأسرة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار