مصائر العرب ومصائبهم
تشرين- ادريس هاني:
ما زالت إشكاليتنا نحن العرب شديدة التعقيد، وسنكون من الحمقى إن رُمنا التبسيط الذي هو رجز السياسة العربية.
ماكسيم غوركي يُحيلنا إلى قول أحد الفلاسفة مفاده أنهم وحدهم الحمقى من يرون الحياة بسيطة، عاش العرب ردحاً من الزمن في إطار ومعنى اللاّدولة، بل في المبتدأ تكبّد العرب ضريبة تأسيس شبه الدولة في ظروف عبث فيها الاستعمار بوجودنا، واستغلّ ضعفنا ووعينا الملتبس ومشاعر مجال ما زال الثّأر هو سياسته، والمُلاوغة هي منتهى ما يملك في معمعان التحدي، مَن قال تحرّرنا من الاستعمار، يحتاج أن يقرأ المشاعر والخطط والسياسات، إنّنا نمثل هذا الاستعمار بوفاء يزكيه لاشعورنا المُحتل.
تطورت الأوضاع والشروط، وحاولنا في مقاطع زمنية معينة، أن نخرج من هزيمتنا، وأحياناً «تبلقن» العرب حول ما يجب القيام به في تاريخ أخطؤوا السير فيه باستقامة، لكل لحظة وعيها ومشاعرها، مقولة الهزيمة ومقولة المنعطف التاريخي ومقولة الذروة ليست سيّان، لكل لحظة تاريخية مشاعرها الخاصة وإلاّ توقّف الزمن السيكولوجي للنهضة، ولكننا نخلط بين الأزمنة والشروط، وكلما تقدّمنا عبّرنا عن لاوعي الهزيمة.
لم تقم خريطة طريق عربية، لأنّ العرب- إلاّ نادراً وفي تجارب محصورة – هم قبائل متناحرة، وعنادهم تزول منه الجبال، لا أتحدث عن «ليفياثان» الدولة العربية، لأنها لم تصل مواصل التعاقد حتى برسم شرّانية كائن لا يرْعَوي.
إن نظرنا بنيوياً لمصائب العرب ومصائرهم، سندرك لا محالة أنّهم شركاء في الهمّ والغمّ والهزيمة، انظر كيف أنّهم يترنّحون بلا وازع سياسي ينتمي إلى علم السياسة وقواعدها، غريزة القبيلة هزمت مفهوم الدولة ورهاناتها، بل دعني أؤكد أنّ العرب فقدوا حتى عصبيتهم، وأعني بها تراتبية العصبية وهرميتها، لأنهم لو حصّلوا شوكتها لكانوا على الأقل تمكنوا من تأسيس دولة ولو بشروطها العصبية، أليس ابن خلدون نفسه- الذي شرح العصبية – يقول إنّ العصبية ضرورة لتأسيس الدولة.
ولكن بما أنّ عصبيتهم تساوت وباتت مشروع اقتتال وفوضى وفتنة وتآمر واستهتار وحروب أهلية قائمة أو مؤجلة، بات رهان الدولة صعباً، وهكذا رأى صاحب نظرية العمران بأنّ الأوطان الكثيرة، القبائل والعصائب، قلّ أن تستحكم فيها دولة.
بالعودة إلى غوستاف لوبون، فإنّ المبادئ لا تستحكم في روح الأمم حتى تنزل من حالة الشعور إلى حالة اللاشعور، ونتساءل أمام معرّة غوستاف لوبون، فيما لو كان العرب في مسار استكمال نهضتهم الحديثة المُجهضة هم نتيجة تداخل عوائق ذاتية وموضوعية، عصبيات الداخل وتحديات الإمبريالية، أقصد فيما لو استطاعوا خلق مبدأين أو ثلاثة في قرن واحد، مبادئ موجهة في ميدان الفنون والعلوم والآداب والفلسفة، لأمكنهم حسب غوستاف لوبون الفوز بنضارة استثنائية بتعبير آخر، يجب على المبادئ أن تتحول ببطء وعمق حد اكتساب سلطة مؤثرة، وليس كثرة المبادئ التي تسكن الألسن الطويلة وتحلّق في الهواء كقطع القطن.
إنّ صاحب ليفياثان نفسه يؤكد بأنّ الجهل في الأسباب الطبيعية يجعل عند الإنسان استعداداً للسذاجة، ويرى هوبز بأنّ هذا يجعله يصدّق الأشياء المستحيلة، فهو عاجز عن الكشف عن استحالتها، ومستعد لتمثلها ما دام لا يوجد لها نقيض، وهوبز نفسه يؤكد مرة أخرى بأنّ السذاجة تخلق استعداداً للكذب.
هذا الهراء من المقاربات التي تعزز السذاجة حدّ الكذب عبر التكرار، هذا الخواء المعرفي الذي يجعل السياسة لا تقوم على التشريح والتحقيق والعمق، بل على العدوى وإنتاج الزيف اليومي، وعنف الكذب الذي يُشْعِر المؤثّرين – طليعة عصر التفاهة – بتورّم معرفي خادع.
الخوف على العرب، والندب على مشروع نهضتهم المجهضة، هو تضخم المبادئ الفارغة من دون استعداد للالتزام خارج عصبية القبيلة والدكاكين السياسية التي باتت تمثل القبيلة، الخطر المحدق بالعرب هو التآمر على المثقف والاستهتار بالمعرفة والميل إلى ليالي الأنس بمهرجانات الخطابة القائمة على التبسيط والتّواهم البيني وتقليص فرصة التحقيق والنظر، ولله دُر من قال إنّ التاريخ يعيد نفسه لدى الحمقى فقط لأنهم يجهلون حقيقة التاريخ.
متى يُدرك العرب أنّ مصالح الدول والمؤسسة شيئٌ مختلف عن مصالح العاملين فيها، بهذا يحيل هنتنغتون الذي جهل العرب مقاربته واختزلوها على كينز في مقولة إننا في النهاية سنموت جميعاً، ليقول إنّها مقولة تنطبق على الأفراد لا المؤسسات، ذلك لأنّ مصالح الأفراد آنية وقصيرة الأمد بينما مصالح المؤسسة بعيدة الأمد، ومن هنا حسب هنتنغتون، فمصالح المؤسسة منظور إليها في مستقبل غير محدود.
ما زال العقل السياسي المتخبط في عصبياته المتفرعة ينظر إلى مصلحة كياناته خارج الميثاق العربي الذي تمّ دوسه بجزمة التّآمر والعصبية، كما ينظر إليها بمقدار أرنبة الأنف، تآمر العرب على بعضهم حتى انتصرت غريزة القطر على حلم العرب الكبير، الذي ما زال يواجه تحدّي الهزيمة والتجزئة والبؤس.
امين الدريوسي, [17/09/2023 12:26 م]
وحده العقل العربي يتعامى عن مسببات هزائمه، ويتباكى على النتائج كما لو كانت ضربة رعد، والمراهقة السياسية طالت وحملت معها كلّ أسباب الطيش وغياب الرّشد، كل ذلك لأنّ نصيب العرب من عصر التفاهة هو انفجار الغباء السياسي ومحاصرة المثقف وسيادة اللّغو، مع أنّ محاصرة المثقف وقاحة وعلامة على النكوص، يريدون سياسة بلا علم وبلا مفاهيم وبلا استشراف وبلا تحقيق، هجم الرعاع وهيمنت الانتهازية، إنّ آذاننا صمّت عن السماع، الصمم زاد في الطين بِلّة، يخاطبون أنفسهم، مهرولين، ما هذه الكائنات يا تُرى .. ما هذا البلاء؟
أخشى على الحاضر العربي ومستقبله من عصبية الدكاكين وتشويشها على العقل السياسي العربي في ممكناته الصعبة وتحديات الواقع، أخشى من التكرار الذي يُضيّع الوقت، بينما العدو لا يكرر خِططه، وهو ينفق بكرم على البحث العلمي، وهو واقعي في إدارة السيطرة.
استسهال الواقع وتفسيره ارتجالاً، هيمنة الشعار على المفهوم، استشراف مستقبل العالم بالسهولة التي نلتهم بها الفلافل، آفة زادت العقل العربي نكسة، وهي ظاهرة تُؤخّر تحقيق مكاسب كثيرة.
ما زال العقل السياسي يتمادى في خطاياه، ويداوي نفسه بالتي هي الداء، لا يتوقف، ويتأمّل، ويتدارك الخطأ بشجاعة، هناك عدم تكافؤ بين الكثير من المنجزات وبين اللغة البلهاء التي تدور حولها، فِصَامٌ قاتل، وشرخ بين الواقع ورؤيتنا الهائمة في استهلاك اللحظة بزهو، أكره عجرفة من يرسلون الكلام إرسال الحماقة، أكره العجرفة وأكرر: أكره العجرفة، فهي من مهلكات العرب، وهي سلوك قذر.
إذا أمكن العقل العربي تحديث معجمه المفاهيمي، إذا امتلك الشجاعة الكافية لتجديد سياساته وفهم أخطائه التي قوّضت ميثاقه القومي، وجعلت عدوّ العرب يستغلون عُجرهم وبُجرهم، عندها نكون قد تحررنا من عبودية اللسان الطويل والمقولات المهلوسة.
لك أن تطبق هذا البوح على تفاصيل أوضاعنا، وما يحيط بها من هلاوس الخطاب، في كل بيت عربي قصص وحكايا، ومن أراد النجاة صُبّت عليه لعنة التآمر والسيطرة، حالة الانتكاس وجيوب التخلف الذهني التي تحرس الهزيمة والبؤس النظري والعملي، غالبة على المجال العربي.
إننا منذ سنوات لم نعد حتى ظاهرة صوتية، بل أصبحنا ظاهرة ملتبسة في لغتها وسياستها، قِلّة من العرب حاولت تحقيق المستحيل، لمّا أدركت تركيب الواقع، وهناك أدعياء يُحوِّلون كل المنجزات إلى خطاب غبيّ، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، بسبب اللسان الطويل للكسالى الذين لا يدرسون محنتهم ويجهلون أسباب العلم بالظاهرات وسُنن التاريخ، ويكتفون بالجاهز من الشعارات التي لا تقوم بها دولة ولا تُنجز بها نهضة ولا يتحرك بها تاريخ.
اِفْهم إذاً..ٍ إن كنت للنظر القويم مخلصاً، وللمعنى العميق مدركاً، أنّ هذا هو الخطاب الذي يستفز العقل العربي للبِدار والتطور، ففي هذا الشذر من فوضى العرب يوجد بصيص نور، وحبل ممدود لمن أدرك سُنن النهضة والرّقي، فالأُنس بالجهل المركب بالواقع، هو جوهر المعضلة العربية.
كاتب من المغرب