ملف «تشرين».. لنهرب بأطفالنا قبل فوات الأوان.. مهاجرون ولاجئون يواجهون سطوة مؤسسات غربيّة متنكرة بثوب «الرعاية الاجتماعية»: تسلبنا أبناءنا وتشتّت شمل عائلاتنا

تشرين – مها سلطان:
في 27 آب الماضي، نشرت «بي بي سي» البريطانية تحقيقاً مطولاً عن الطفلة الهندية «بيبي إم» التي تحولت قضيتها إلى نزاع دبلوماسي ممتد بين الهند وألمانيا، تحول بدوره إلى قضية رأي عام، وذلك بعد انتزاع الطفلة من والديها بحكم قضائي في أيلول 2021 بتهمة «إساءة المعاملة».. وكان عمر الطفلة حينها سبعة أشهر، فيما تبلغ اليوم عامين ونصف العام.
لم يستسلم الوالدان – اللذان هاجرا إلى ألمانيا في عام 2018 بعد حصول الأب على وظيفة في العاصمة برلين – وما زالا يواصلان صراعاً مريراً مع القضاء الألماني الذي أعاد التأكيد على قراره في حزيران الماضي، بحكم جديد يرفض إعادة الطفلة إلى والديها، ويقضي بتجريدهما من الحقوق الأبوية وتسليم الطفلة إلى «مكتب رعاية الصغار» في ألمانيا، ولم يكن أمام الأبوين سوى العودة إلى بلدهما الهند ليُطلقا «حملة حشد الدعم» لمعركتهما في سبيل استعادة طفلتهما، واصفين سير المحاكمات الألمانية التي جرت بأنها صورية.
الوالدان يتهمان السلطات الألمانية بـ«خطف الطفلة بسبب الاختلافات الثقافية وسوء الفهم»، ويقولان إنهما عاجزان عن التواصل مع طفلتهما من دون مترجم، حيث قضت العامين الماضيين في دار رعاية، وبالتالي هي تتحدث الألمانية، ولا يُسمح لهما بزيارتها إلا في فترات متباعدة جداً.
ورغم أن الاختصاصيين الاجتماعيين المُكلفين بالمتابعة وصفوا الأبوين بأنهما «مُحبّان ومهتمان» كما وصفوا تفاعل الطفلة معهما بأنه «إيجابي وممتع وفضولي باستمرار» إلا أن هيئة حماية الطفل أبلغت الوالدين الأسبوع الماضي بأنهما ممنوعان من زيارة طفلتهما «أو التواصل معها عبر الفيديو» بذريعة «عدم وجود من يعتني بخدمة توصيل واستلام الطفلة».
حظيت قضية الطفلة باهتمام واسع في الهند حيث تم تنظيم تظاهرات لدعم الوالدين، وكذلك من المهاجرين الهنود الموجودين في عدة مدن ألمانية.. والنتيجة أن السلطات الألمانية صرحت بأن القضية في المحكمة وبالتالي فهي خارج سلطتها «لكنها تتواصل مع السلطات الهندية للتوصل إلى حل».
ومع مرور الوقت تتصاعد مخاوف الوالدين من أن يَفقدا طفلتهما نهائياً.

آلاف الأسر المهاجرة تعيش رعباً يومياً من أن تفقد أطفالها

على يد المؤسسات الاجتماعية في البلد الذي هاجرت إليه وبالذريعة نفسها «سوء المعاملة»

قضية الطفلة الهندية «بيبي إم» أعادت فتح قضايا أطفال المهاجرين في الدول الأوروبية تحديداً، فهي ليست قضية منفردة بل تأتي في سياق طويل جداً من القضايا المماثلة لآلاف الأسر المهاجرة التي تعيش رعباً يومياً من أن تفقد أطفالها على يد المؤسسات الاجتماعية في البلد الذي هاجرت إليه، وبالذريعة نفسها «سوء المعاملة»، ويتضاعف هذا الرعب أخذاً بالاعتبار أن هذه المؤسسات تتسلح بالقضاء لانتزاع أطفال المهاجرين وبصورة نهائية، بحيث تنقطع جميع الروابط بينهم وبين أهاليهم، إذ يتحول الأطفال على يد هذه المؤسسات الاجتماعية إلى مجهولي الإقامة والهوية، بعد منحهم لأسر أخرى «للتبني» وإعطائهم أسماء جديدة «ووالدين جديدين» وجنسيات جديدة، أو لإبقائهم في مؤسسات الرعاية الاجتماعية، وأيضاً بأسماء جديدة.. ولا يتم هنا استبعاد هدف المتاجرة بهم سواء كان الأمر متعلقاً بمنحهم لأسر للتبني مقابل مبالغ مالية معينة، أم بغرض استغلالهم ضمن مسارات عمل محددة، أو تأهيلهم لأهداف مستقبلية.. وكل ذلك على قاعدة تربيتهم وفق ثقافات وولاءات البلد المُضيف.
في أيار الماضي غزا مقطع فيديو مواقع التواصل الاجتماعي وأثار غضباً كبيراً وخوفاً أكبر، حيث يُظهر الشرطة الألمانية وهي تنتزع طفلاً مهاجراً من عائلته بالقوة، في مدينة بريمرهافن شمال البلاد، فيما عائلة الطفل تجاهد عبثاً لإقناع رجال الشرطة بتركه قبل إخبارهم بأنه يعاني من مشكلات صحية وأنه يحتاج لعائلته، لكن رجال الشرطة تجاهلوا كل ذلك وأخبروا العائلة بأنهم ينفذون قراراً صادراً عن المحكمة ومكتب رعاية الشباب المعروف في ألمانيا باسم «يوغند آمت».
وقِسْ على ما سبق مئات الحالات، وبصورة شهرية تقريباً.. القليل جداً منها يجد طريقة للإعلام.
إذاً ما العمل؟ كيف ننجو بأطفالنا؟ لماذا علينا العيش في خوف دائم من انتزاعهم منّا، لماذا نبقى هنا؟
أسئلة تستقر بين العائلات المهاجرة حتى غدت كابوساً دائماً، وما من سبيل للتخلص منه إلا… بالعودة.
إذاً لنعكس الوجهة.. لنعد إلى بلداننا.. لنهرب بأطفالنا وننجو بهم ومعهم.
القصة من أولها
لنعد إلى عام 2015، العام الذي يُوصف بأنه «غيّر أوروبا إلى الأبد» عندما فتحت تركيا بواباتها ليتدفق ملايين المهاجرين إلى البلدان الأوروبية، ليس حُباً بالمهاجرين وتسوية لأوضاعهم بقدر ما كان ابتزازاً تركيّاً صريحاً للأوروبيين لأسباب معروفة للجميع.. ولا شك بأن أحداً لم ينسَ بعد سيل المهاجرين الذي بدا بلا نهاية، حيث استمرت الفضائيات لأشهر عدة تنقل «قصة العبور العظيم» من تركيا إلى أوروبا، وقبل تركيا من دول المنطقة طبعاً، سورية بالدرجة الأولى، وما زالت قصص «العبور والعابرين» تخرج بين حين وآخر لتتصدر المشهد، ولتثير- في أغلبها- مشكلات وأزمات لا تنتهي.
وإذا كان ذلك العام غيّر أوروبا إلى الأبد، فهو أيضاً غيّر نظرتنا إلى مسألة الهجرة واللجوء، وكيف أنه ليست كل هجرة، وليس كل لجوء، يعني دائماً حياة أفضل.

عندما يتم انتزاع الطفل من عائلته تنقطع جميع الروابط معه.. يصبح مجهول الإقامة والهوية

بعد منحه لعائلة أخرى وإعطائه اسماً جديداً و«والدين جديدين» ومكان سكن جديد

قبل عام 2015 لم تكن الأضواء مُسلطة بصورة كافية على معاناة المهاجرين وما يواجهونه من مشكلات وأزمات قبل أن تستقر بهم الحال، وكثير منهم لا تستقر أحوالهم فيعيشون حالة من الاستسلام للواقع، ويقتنعون على مضض بأنهم لا يستطيعون العيش في بلاد الاغتراب وفق شروطهم، كما كانوا يعيشون في بلدهم، في مدينتهم، في قريتهم.. وإنما وفق شروط بلد الاغتراب، عاداته وتقاليده، في التربية والتعليم والتواصل والثقافة.. وفي الولاء الأول، له أم للبلد الأم.
ليس خافياً على أحد أن سورية بسبب الحرب الإرهابية التي تواجهها منذ عام 2011 كان لها النصيب الأكبر من هجرة أبنائها في ذلك العام والأعوام التي تلته.. وقبلها كانت العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003.
وليس خافياً أن الدول الأوروبية، خصوصاً ألمانيا، سعت لاستقطاب المهاجرين السوريين لما يتميز به السوري من مهارات وكفاءات ستسهم بلا شك في النهوض بالمجتمعات الأوروبية، خصوصاً أن الحرب الإرهابية التي تتعرض لها سورية كان أحد أخطر فصولها استهداف العلماء وأصحاب الكفاءات والخبرات بالترهيب والاغتيال، والجميع يعلم كم خسرت سورية منهم في هذه الحرب، إما بالاغتيال، وإما بالاضطرار للهجرة خوفاً من الاغتيال.. السيناريو نفسه حصل في العراق بعد الغزو.
وللتوضيح نحن نتحدث هنا عن فترة ما بعد الحرب على سورية، وما بعد عام 2015، وليس عن الهجرة واللجوء بشكل عام، ويعلم الجميع كم برز السوريون وتفوقوا في دول الاغتراب، وبعضهم وصل إلى سدة الرئاسة، وبعضهم كانت له مساهمات كبيرة جداً في الاقتصاد وفي العمل المجتمعي.
وللتوضيح أيضاً، نحن سنتحدث عن الجانب الآخر، المظلم، من الهجرة واللجوء، وهو الجانب الغالب ولكن لا يتم تسليط الأضواء عليه، إلا أنه ما بعد عام 2015 بات هذا الجانب يتصدر المشهد.

وسنتحدث بصورة أساسية عن الهجرة العكسية، أي رحلة العودة، وبلسان الأوروبيين أنفسهم، وبالأرقام التي يقدمونها، والتحقيقات التي ينشرونها عن أسباب العودة، أو بمعنى أدق الفرار من «جنة الغرب» والعودة إلى بلدانهم وإن ما زالت تحت جحيم الحروب والصراعات التي يُشعلها هذا الغرب.

الأسئلة حول «ما العمل وأين المفر؟» لا تكف تلاحق العائلات المهاجرة..

كيف ننجو بأطفالنا.. لماذا علينا العيش في خوف دائم من انتزاعهم منّا.. لماذا نبقى هنا؟

منذ عام 2018 بدأت وسائل إعلام غربية تهتم بهذه المسألة وتعرض أسبابها ونتائجها.
في ذلك العام نشرت صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» تحقيقاً مطولاً، متسائلة: «لماذا يفضل السوريون المعاناة في بلادهم على الإقامة في أوروبا؟» فتقول: إن آلاف اللاجئين السوريين المحبطين غادروا أوروبا منذ عام 2016 وعادوا إلى بلادهم، وعرضت مقابلات مع عدد منهم التقاهم مراسلها وهم في طريق العودة عبر اليونان «مطار ثيسالونيكي شمال البلاد»، ومن المقابلات خلصت الصحيفة إلى أن أسباب المغادرة تعود إلى عدم الشعور بالأمان وإلى الإحساس بعدم اليقين إزاء المستقبل، حيث إن أغلب المهاجرين حصلوا من سلطات البلاد التي هاجروا إليها على أوراق حماية مؤقتة يتم تجديدها كل عام، وليس على «وضعية لاجئ» التي تمهد لهم السبيل لإقامة دائمة.
لكن السبب الأهم يتمثل بما يُسمى «أعراف الأبوة والأمومة» التي يتم تلقينها للمهاجرين وأبنائهم في دورات تدريبية هدفها «دمجهم في مجتمعاتهم الجديدة» وبسبب الاختلاف الكلي في هذه الأعراف، ولأن أبناء المهاجرين هم المستهدف الرئيسي، فإن المهاجرين لا يدركون إلا متأخراً حجم الورطة التي هم فيها، ونحن هنا نتحدث عن العائلات المهاجرة سواء التي هاجرت مع بعضها بعضاً أو تلك التي اجتمعت لاحقاً عبر ما يُعرف بـ«لمّ الشمل».
هنا تواجه العائلات المهاجرة والمهاجرون أكبر التحديات والمخاطر المتمثلة في «من يربي أولادهم وكيف؟»، هم أم المؤسسات الاجتماعية في بلاد الاغتراب؟.. وفي نهاية المطاف تتحول هذه المسألة إلى كابوس يومي، وخوف دائم من أن تنتزع منهم السلطات أطفالهم، خصوصاً أنها لن تعدم الأسباب لتحقيق ذلك، بل لن تتوانى عن فبركة الأكاذيب إذا ما رأت أن ذلك يحقق لها هدف انتزاع الأطفال، خصوصاً إذا ما أرادت تحقيق أهداف تجارية من وراء ذلك.
في حزيران الماضي نشر موقع «يورو نيوز» تقريراً عن أطفال المهاجرين وكيف «تحولت نظم الرعاية لأداة تجارية تنزع الأبناء وتحطم شمل الأسر»، معتبراً أن ما وضعته الدول الأوروبية من قوانين بهذا الخصوص تحت مسمى «رعاية أطفال المهاجرين» ما هي إلا انتهاك صارخ لحقوق الأسرة في تربية أطفالها، خصوصاً في ظل تزايد التقارير عن التعسف في تنفيذ هذه القوانين خاصة تجاه الأسر الشرق أوسطية «والمقصود هنا العربية»، حيث تشكل هذه القوانين خليطاً من العنصرية والإهمال، إضافة للدوافع التجارية من قبل مستفيدين من هذه القوانين ومن أزمة اللجوء والهجرة، حيث تتحول في النتيجة النهائية إلى عمليات خطف حقيقية، ليتم منح الأطفال «المخطوفين» إلى أسر بديلة مقابل مبالغ مالية ضخمة.
«الحرب في سورية أفضل من الأمن في السويد»، هكذا تقول أمٌ سورية هربت من السويد مع ابنتها بسبب انتزاعها منها، حسب صحيفة «إكسبريسن» السويدية التي أشارت إلى أن الأم كانت تتحدث من تركيا في طريق عودتها إلى سورية فيما تم اعتقال الأب خلال محاولته استعادة ابنته الثانية بطريقة «غير قانونية».
ويقول موقع «يورو نيوز» تعليقاً: هذه واحدة من مئات القصص المأساوية لأطفال المهاجرين في أوروبا.

مئات العائلات السورية المهاجرة تعيش الكابوس نفسه ولا تجد سبيلاً للخلاص

إلا بالعودة أياً تكن ظروف الحياة في الوطن.. النجاة بالأبناء هي الهدف

في ألمانيا والسويد تحديداً باتت قضية انتزاع الأطفال، وفق مراقبين، مرشحة للانفجار مع اتساع شكاوى الأهالى التي باتت مصحوبة بحركات احتجاج وتظاهرات في الشوارع لتتحول فعلياً إلى قضية رأي عام.
في السويد مثلاً لا شيء يثير رعب الأهالي أكثر من اسم «سوسيال» وهي إدارة الشؤون الاجتماعية في البلاد، والموصوفة على نطاق واسع بأنها تنفذ عملية «اختطاف قانونية» للأطفال، وتكون موجهة في الغالب نحو عائلات محددة، وما بعد عام 2015 كان أغلبها يستهدف عائلات سورية، وحسب وسائل إعلام سويدية، يمكن لمؤسسة «سوسيال» سحب أي طفل من ذويه لمجرد تلقيها بلاغاً من جهة ما أو شخص ما، بأن الطفل يتعرض لـ«عنف» أو انتهاكات معينة، حيث تضعه في دار رعاية إلى حين التحقق من الأمر.
لكن هذا «التحقق» لا يجري، ولا تمضي فترة طويلة حتى يتم إعطاء الأطفال المسحوبين إلى عائلات أخرى.
وفق بيانات سوسيال، فإن عدد الأطفال الذين رعتهم خلال عام 2020، بلغ 27 ألفاً و300 طفل (58% ذكور و42 % إناث) تم وضع 19 ألفاً منهم لدى عائلات بديلة، و8300 في دُور الرعاية.
قبل عام من الآن نشرت وكالة «الأناضول» التركية تحقيقاً مطولاً حول هذه القضية، ومن ضمنها مقابلة مع أحد العاملين في سوسيال يدعى توفيق أمجد حيث قال: «عملت مع سوسيال 10 أعوام رصدت خلالها انتهاكات كبيرة أدت لاستقالتي في نهاية المطاف»، مؤكداً أنه لم يشهد أي حالة تم التحقق منها، ولم يشهد أيضاً إعادة أي طفل إلى أهله بعد سحبه منهم.

ويوضح أمجد أن الانتهاكات «تتعلق بتحريف أقوال الأطفال أو اعترافات الأسر لتبرير سحب الطفل وإيداعه في إحدى الدور الحاضنة»، ويضيف: الأمر كله يتعلق بشبهة فساد يصعب توثيقها، إذ لا توجد رقابة على الموظفين الإداريين.
ويتابع: «بعد سحب الأطفال يتم منحهم لشركات مسؤولة عن توزيعهم على دُور رعاية أو أسر حاضنة، يتقاضون قرابة 40 ألف كرون شهرياً «4300 دولار» على الطفل الواحد، وفي بعض الأحيان أكثر من ذلك إذا لزم الأمر، وذلك وفق حالة الطفل.
كذلك يعرض تحقيق وكالة الأناضول لحالة أب يدعى صالح العلي له سبعة أبناء حيث يقول: سحبت مؤسسة سوسيال ابنتي البالغة من العمر 12 عاماً بعدما كتبت صديقاتها رسالة إلى المعلمة على لسانها بأنها تُعنف في المنزل ويتم ضربها، وذلك على سبيل المزاح أثناء لعبها معهن.
وأضاف الأب: ابنتي لا تجيد السويدية أصلاً فكيف لها أن تكتب هذه الرسالة، علاوة على أن صديقاتها في التحقيق ذكرن أنهن صاحبات الفكرة وأن الأمر كله لم يكن يتعدى مزحة ولعبة.
وتابع: إدارة سوسيال تحفظت على ابنتي في اليوم نفسه، ثم أتت في اليوم التالي للتحقيق مع باقي أولادي الستة، لكن زوجتي هربت بهم في الليلة ذاتها إلى تركيا، لأننا لم نكن على استعداد للتضحية ببقية أبنائنا وفصلهم عنا، وبقيت أنا بالسويد لمتابعة القضية.
هذا غيض من فيض، وكما هي الحال في السويد نجد الأمر نفسه في ألمانيا حيث توجد مؤسسة «يوغند آمت» المُعادل لمؤسسة سوسيال في السويد، والتي يحق لها انتزاع حضانة الأطفال من الوالدين بدعوى تعرضهم للتعنيف أو الضرب أو التهديد «الرهاب الأسري» كما تسميه، ويعود لها حصراً تقييم كل حالة واتخاذ القرار بشأنها.

نظم الرعاية الغربية تتلطى وراء ما يسمى اختلاف «أعراف الأبوة والأمومة» والتضاد بين ثقافتين: غربية وشرقية لانتزاع الأطفال من عائلاتهم وكثيراً ما تفعل ذلك وفق اعتبارات غير منطقية.. معلومات خاطئة أو حتى وشاية

رغم كل ما سبق، ومن باب الإنصاف وتحقيق التوازن في العرض والتحليل، ومنعاً لاتهامات بالمبالغة أو الرؤية الناقصة للقضية، لنسأل: لماذا يحدث ذلك؟ وهل إن النيات من وراء ذلك صادقة فعلاً؟ كيف يمكن التوفيق والتسوية بين الجانبين؟ وهل هناك مبالغة؟ وهل إن هذه المسألة تحولت فعلياً إلى حالة من الاستغلال والمتاجرة؟
لنعرض وجهتي النظر
أولاً- العديد من الدول الأوروبية أقرت خلال العقد الماضي ما سمته قوانين رعاية الأطفال التي تسمح للعاملين في الخدمة الاجتماعية بإبعاد الأطفال عن والديهم قسراً من دون الحصول على إذن مسبق من المحكمة إذا ثبت أنهم غير مؤهلين ويرتكبون تجاوزات ضد أطفالهم، ويرون أن ذلك يحقق هدفين: حماية الأطفال، وحماية المجتمع.
ورغم أن الحكومات الأوروبية وقعت تحت ضغط كبير بخصوص هذه القضية لكنها ترد في كل مرة بأنها لا تعلق على حالات فردية وأن التركيز الأساسي ينصب على عدم تعرض الطفل للأذى الجسدي أو النفسي، مشيرة إلى أن الناس لا يرون سوى جانب واحد من القصة، وتقول: إن هذه القوانين نفسها تسري على العائلات الأوروبية ممن تثبت سوء معاملتها لأطفالها، وليس فقط على العائلات المهاجرة.
أما فيما يتعلق بطرق التعليم والتثقيف فهذه موجهة للجميع، وعندما يقرر أحد ما الهجرة إلينا فهو يعلم مسبقاً الاختلاف الجذري في التربية والتعليم وفي القوانين المُطبقة التي تستهدف فئتي الأطفال والشباب.. كما يعلم أن «الانغلاق في مجتمع منفتح قد يؤدي إلى صدمات وانحرافات خطرة لدى الأطفال»، وهذا ما نعمل على تفاديه.. كذلك يعلم أنه لا يستطيع العيش هنا بالعادات والتقاليد نفسها وأسلوب الحياة الذي كان يعيشه في بلده، بل لا يستطيع تربية أبنائه وفق ذلك لأن أولاده سيكونون في حالة نشاز مع أقرانهم، وبالتالي إما أن يكونوا منعزلين أو يتحولون إلى حالة صدامية «عنيفة» مع المجتمع، وعليه فإن الخسارة تكون مزدوجة، يُسمى «أعراف الأبوة والأمومة».
ثانياً- بالمقابل تتساءل العائلات المهاجرة، هل إن الصراخ في وجه أطفالنا أو الضغط عليهم من أجل مصلحتهم يستدعي انتزاعهم منا؟ وهل إن دعوة أبنائنا للصلاة على سبيل المثال، أو القول لهم إن «المثلية» أمر غير مقبول دينياً واجتماعياً يستدعي انتزاعهم منا؟.. نحن لا نرفض التأقلم أو الاندماج في المجتمعات الجديدة، وندرك تماماً حجم الاختلاف، لكن كيف يتم تقييم المخاطر التي يتعرض لها الطفل، ولماذا نرى أنها تخضع للكثير من الاعتبارات غير الصحيحة وغير المنطقية؟ أحياناً ينتزعون الطفل بناء على وشاية أو معلومة خاطئة ومن دون التحقق.

يُهاجرون من أجل الأبناء ويعودون من أجلهم وفي كلا الخيارين يخاطرون بكل شيء..

عندما تكون خسارة الأبناء حتمية يصبح قرار العودة منطقياً ومفهوماً

العام الماضي، بث راديو السويد مقابلة مع سيدة عراقية اسمها منى وهي أم لأربعة أطفال جميعهم في المدارس السويدية، تقول: بعض الجوانب في التربية التي يتلقاها أولادي تخالف المبادئ والأخلاقيات التي أريد تربيتهم عليها، خصوصاً مواد التربية الجنسية فهي تتنافى كلياً مع أخلاقياتنا، وتضيف : أنا أحب أن يتعلم أطفالي حول هذا الموضوع، لكن ما يعرضونه عليهم من أفلام وفيديوهات لا يدخل في نطاق التعليم العلمي، بل تعليم للإباحية.. هذا خروج عن الهدف العلمي ودخول في تعليم أطفالنا ثقافة خاصة لا تتماشى مع المبادئ والأخلاقيات العامة.
إذاً.. ما العمل؟
– باعتبار أن الجانبين غير متكافئين بالمطلق، حيث إن الدول الغربية هي الدول المُضيفة، وكل من على أراضيها يخضع لقوانينها، وهذا حق لها، تماماً كما هو حق لدولنا، إذا ما عكسنا الحالة.. وللإنصاف فهي كمجتمعات لها خصوصيتها تماماً كما لمجتمعاتنا الشرقية خصوصيتها، وتالياً فإن العائلات المهاجرة مُطالبة باحترام هذه الخصوصية تماماً كما هي حالنا تماماً تجاه من تستضيفه مجتمعاتنا.
– وباعتبار أن المُضيف هو من يحدد نوعية «الخدمة» – إذا جاز لنا التعبير- وعلى المُستضاف أن يلتزم بقواعده ومبادئه، وهو بالأساس لا يستطيع تغييرها أو الاعتراض عليها، «فهو حالة فردية تواجه دولة» إذا ما نظرنا للمعادلة على هذا النحو.
– وباعتبار أن أي مسألة متعلقة بالمهاجرين، ومنها قضية سحب الأطفال، مهما اتسعت وتضخمت، تبقى تحت سقف قوانين الدول المُضيفة، وعلى الجميع الالتزام والتنفيذ، مهما كان مستوى التجاوزات والانتهاكات..
لكل ذلك..
يكون هناك خياران لا ثالث لهما.
إما القبول والبقاء.. وإما الرفض والعودة.

ويبدو أن الخيار الثاني اكتسب زخماً متعاظماً في السنوات الأخيرة.
فريق واسع قد لا يصدق قصص العودة، خصوصاً أن أغلب عمليات اللجوء والهجرة تتم من أجل الأطفال أنفسهم، وبهدف تأمين مستقبل آمن لهم، اقتصادياً واجتماعياً، حيث يُخاطر الآباء بكل شيء، ويدفعون «الحيلة والفتيلة» ثمناً للهجرة والاستقرار في إحدى الدول الغربية.. لكن عندما تتحول بيوت المهاجرين إلى صراع مزدوج، بين الآباء والأبناء من جهة، لناحية محاولة التوافق والتوفيق بين ثقافتين شرقية وغربية.. وبين الآباء والسلطات من جهة ثانية، لناحية الخوف الدائم من انتزاع الأبناء منهم، ولناحية أطماع السلطات بجيل فتي خام تستطيع تكييفه واستثماره وتوجيهه كما تريد.
عندما تصبح هذه هي حياة المهاجرين، وعندما يواجهون حتمية خسارة الأبناء.. عندها يصبح قرار العودة منطقياً ومفهوماً.

اقرأ أيضاً:

ملف «تشرين».. اللاجئون السوريون وقصص الاغتراب.. بين منطق «الضيافة» ومنطق المُضيف تضيع الحقوق والأجيال

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار