مُتورّطون ببدْعة «الميتروبول السوريّ»
لعلَّ أغزرَ ما تنتجُه سورية اليومَ، وقد لا يكونُ الأغنى والأدسم؛ هو الأفكارُ والرؤى والاجتراحاتُ التي يصرُّ أصحابُها على أنها «خلّاقة واستراتيجيّة».
بعضُهم يقتبسُ، ويعترفُ، وآخرون يزعمون الإبداعَ، والحصيلةُ تدفقٌ كثيفٌ لخيارات تكفي لإصلاح إقليمٍ أو قارةٍ، وليس مجرد بلدٍ مأزومٍ يبحثُ عن مخارج لأزمته.
بالفعل؛ ثمةَ سيناريوهاتٌ كثيرةٌ للإصلاح والاستدراك ومعاودة النهوض، لا يمكنُ تسفيهُ حتى أبسطها، وأكثرها تقليديةً، فأغلبُ السيناريوهات التنمويّة يبدو صحيحاً، لأننا في بلدٍ يُفترض أنه لا يبحث عن موارد، بل مواردُه تبحثُ عمّن يستثمرها، وينظّمها.
و اللافتُ أنَّ في مؤسساتنا كثيراً من المفوّهين البارعين في الحديث عن سلاسل القيمة ومهارات مراكمة لمسات الاستجابة لاستحقاقات تنمية النعمة لا رفسها والتعسّف بها؛ ممن برعوا في تدبيج البيانات والنصائح، لكنّهم أحجموا، أو أخفقوا في التنفيذ، فانضمّوا إلى جوقات تراشُق السيناريوهات، أو عادوا إليها؛ لأنهم مُنحدرون منها أساساً.
قد يكونُ خطؤنا وسط زحام الرؤى التنمويّة الذي أضاع رشدَ الجميع، الحكومة والمواطن، أننا نقاربُ مشكلاتنا بحلولٍ عامّة «دوكمة» خصوصاً على مستوى قطاعات الإنتاج الأساسيّة، باستثماراتها الكبيرة والصغيرة والأصغر، ونتجاهلُ تنوّعَ وتباين الميزات ونقاط القوة والضعف؛ فسورية على، صغر مساحتها، هي « إقليمٌ » زاخرٌ بالتنوّع البيئيّ والطبيعيّ والمناخيّ، وحتى في أدبيّات النشاط البشري، وهذا يعني تنوّعاً في المقوّمات والميزات ذات البعدين النسبيِّ والمطلق وتبايناً في الحاجات والمتطلبات، وهو تباينٌ لابدّ من أن نلتقطه بحذاقةٍ عندما ننادي جميعاً بتطبيق المبدأ الاقتصادي القديم « دعهُ يعمل دعهُ يمر»؛ أي يجبُ أن نعرفَ بدقّة كيف سيعملُ، وكيف سيمرُّ.
نعلمُ أنَّ ثمةَ مَنْ سيتناولُ مثل هذه الرؤية، ويضعها في سياق تزاحُم النظريّات والمنظّرين الذي ننتقده في هذا المقال، لكنّ الوقائع تقدّمُ نفسها، ولا تنتظر مَنْ يقدّمها.
ولا نظنّه اكتشافاً؛ أن الخططَ المطلوبة اليومَ مع تطبيقاتها تبدو قطاعيّةً مكانيّةً لا مركزيّة، المركزيّةُ في إقرارها ودعمها وتسهيلها وتعزيزها فحسب، وفي كلّ منطقةٍ أو محافظة ما يكفيها من «الخبراء» وروّاد الأعمال، الصغار والكبار، وفيها مجالسُ محليّة، ولها ممثلوها في مجلس الشعب، وخصوصيتُها لجهة المقوّمات والموارد الطبيعيّة والبشريّة.. فلماذا تنتظر المناطق والمحافظات خططَ وبرامج الحكومة المركزيّة، في حين يجب أن تنتظر الحكومة تدفق المبادرات والبرامج والخطط، بما أنَّ «أهل مكة أدرى بشعابها» ؟!
قد تكون المبرراتُ والذرائعُ جاهزةً وكثيرةً؛ والذرائعيّةُ إحدى الخصال البغيضة التي ابتُلينا بها في هذا الشرق، وليس فقط في بلدنا، لكننا نعلمُ علمَ اليقين أنه لم يحصل أن بادرت محافظة، بكوادرها ومتموّليها ومجالسها المحليّة، و«أحرَجت» الحكومة بخطةٍ تنمويّة مُتكاملة ومن النوع «الإنقاذي»؛ في زمنٍ بتنا نتقبّلُ فيه مثل هذا المصطلح الاستثنائيّ.
أمّا الأخطرُ من غياب الفعاليّة و «اتكاليّة» المجالس والمجتمعات المحليّة؛ فهو الفسادُ والتعسفُ بالموارد واللعبُ في المساحات الفارغة بين الرقابة والقانون، وهي مساحاتٌ باتت حافلةً بالامتيازات الفرديّة.
لن تتحقّقَ التنميةُ الحقيقيّةُ المتوازنةُ، إلا عبر التشاركيّة المجتمعيّة الفاعلة بقيادة «السلطات التنفيذيّة المحليّة»، وإلا سنبقى ندورُ في حلقات السيناريوهات النظريّة، لينطبق علينا القولُ الشهيرُ «غداً سأحتلّ العالمَ، والآن سأنامُ».