نجحنا واحتوينا الصين بالهند.. حسناً: كيف سنحتوي الهند؟
تشرين – د. رحيم هادي الشمخي:
ما العمل إذا كنا ندور في حلقة مفرغة ما بين الصين وروسيا والهند؟
سؤال بات يلح على صانعي السياسات في الولايات المتحدة الأميركية، دون إجابة، فلا سبيل واضحاً، ولكن هذا لا يعني أن المحاولات الأميركية للخروج من هذه الدائرة أو لتحقيق توازن من نوع ما، ستتوقف، رغم أنها مازالت فاشلة حتى الآن.
وكل هذا مرده إلى السؤال المركزي الأساسي القديم/الجديد: كيف يمكن لأميركا احتواء الصين وفي القريب العاجل جداً باعتبارها باتت خطراً داهماً وليس آجلاً كما كانت الإستراتيجيات الدفاعية الأميركية تصنفها حتى الأمس القريب؟
واستتباعاً.. كيف نستطيع استقطاب الهند إلى دائرة احتواء الصين دون أن نغفل أو نخاطر بمسألة أن هذا قد يؤدي إلى زيادة قوتها ونفوذها من جهة، وزيادة تقاربها مع روسيا وصولاً إلى التحالف من جهة ثانية؟
الهند مع روسيا، عضو في مجموعة بريكس التي ستبحث في قمتها المقبلة أواخر شهر آب المقبل إنشاء عملة بديلة للدولار، هذا عدا عن المحادثات الهندية الروسية حول التعامل تجارياً بالعملات المحلية.. ولا ننسى هنا أن واردات الهند من النفط من روسيا تتزايد، وقد حلت بالفعل محل العراق والسعودية كأكبر موردين للسوق الهندية.
أيضاً.. كيف نستطيع احتواء الهند مستقبلاً، وهي مثلها مثل الصين، تكاد تكون موجودة في كل مكان؟.. ففي الدراسات الإستراتيجية – خصوصاً الأميركية – الهند هي المنافس الأقوى عالمياً للصين، وحتى أنها مرشحة لإزاحتها، أو على الأقل أن تكون معها سواء بسواء، وهذا يعني أن الهند بدورها ستكون في موضع الصين نفسه بالنسبة لأميركا التي لن يطول الوقت لتعلنها خصماً إستراتيجياً وتهديداً قومياً كما هي الصين؟
والأهم الأخطر- الذي لا يتم التطرق إليه بصورة تكاد تكون شبه كلية – ويتمحور في السؤال التالي: ماذا عن كون الصين تعمل أيضاً على احتواء الهند.. ماذا لو نجحت أو لنقل استطاعت أن تضع الهند في دائرة مغلقة لا تستطيع معها إلا أن تكون مع الصين بعيداً عن أميركا؟.. عوامل النجاح لدى الصين كبيرة ومهمة، كما أن الهند لا تخفي مسألة أنها تعمل وفق مسار إستراتيجي لتكون قطباً رئيساً في العالم المقبل متعدد الأقطاب وليس طرفاً ملحقاً بتحالف، لا مع الصين ولا مع أميركا ولا مع روسيا، ولديها كل الإمكانيات لتكون كذلك، وباعتراف أميركي/ صيني.
***
ورغم أن أميركا تعمل على كل الجبهات في سبيل احتواء الصين، إلا أن التركيز ينصب بصورة أساسية على الهند خصوصاً في السنوات الأخيرة، علماً أن المسار الأميركي في هذا الاتجاه مازال يعاني فشلاً مزمناً رغم كل ما تقدمه أميركا- ما تتنازل عنه- للهند في سبيل ذلك، إلا أن إدارة الرئيس الحالي جو بايدن اختارت أن تجرب حظها مع الهند على أمل أن تنجح في تحقيق اختراق في الموقف الهندي الذي يعتمد حتى الآن سياسة الحياد الإستراتيجي في صراع النفوذ ما بين أميركا والصين، ويتمسك بمسافة أمان واجبة ولازمة مع الصين.. علماً أن الهند (كما أميركا نفسها) تؤكد باستمرار أنه لا يمكن احتواء الصين.
مع ذلك، ترى أميركا أنه ما زال بالإمكان اللعب على التناقضات، وهي كبيرة، وبما يوفر فرصة لا بد من استثمارها.
لنفصّل أكثر.. ولنعرض ما يقوله الأميركيون أنفسهم.
حسب موقع «بيزنس إنسايدر» الأميركي يوم الخميس الماضي فإن أميركا غير مستعدة لحرب مع الصين لأنها ستكون مدمرة للجميع، وعلى أميركا قبل غيرها، هذا عدا عن أنها لا تملك أي مقومات للفوز، لا عسكرياً ولا اقتصادياً. ويرى أن الحرب إذا ما اندلعت ستكون شاملة وعلى جبهات متعددة من الجو إلى البحر إلى «الويب» إلى الأسواق المالية، ويضيف: «في حين أنّ الولايات المتحدة لديها الكثير من المزايا، فإنّ سنوات من نقص الاستثمار والرضا عن النفس تركت أميركا تفتقر إلى العديد من المجالات الرئيسة التي ستحتاج إلى تعزيزها لمواجهة التهديدات من الصين بنجاح».
إذاً لا بد من الاحتواء.
في 20 حزيران الماضي زار رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي واشنطن التي احتفت به بصورة كبيرة جداً لدرجة أنها غيّرت بروتوكولات دبلوماسية كاملة لأجله، وقد تابع العالم هذه الزيارة وخطاب مودي أمام الكونغرس وكيف تقاطر السيناتورات طابوراً للحصول على توقيعه في نهاية الخطاب، وبدا جلياً كيف أن إدارة بايدن متمسكة ومصرة على تمتين العلاقات مع الهند واجتذابها إلى مسار احتواء الصين.
الاحتفاء الأميركي وصل إلى حد إعطاء الضوء الأخضر لنقل تكنولوجيا من «جنرال إلكتريك» لإنتاج محرّكات من نوع «إف 414»، بالتعاون مع شركة «هندوستان» لصناعات الطيران المملوكة من الدولة، لتصبح الهند واحدة من خمس دول (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وروسيا وفرنسا) قادرة على صنع محرّكات نفّاثة لقواتها الجوية المسلحة، علماً أن هذه التقنية، والتي لا تمتلكها الصين بعد..
«ثمينة» للغاية بالنسبة لأميركا، التي كانت تحرص، حتى الآن، على عدم مشاركتها مع حلفائها حتى، وفق مجلة «ناشيونال إنترست». وحسب المراقبين فإن هذه الصفقة هي بداية لتعاون أكبر، خصوصاً في مجالات التكنولوجيا، وما يسمى الابتكار الدفاعي.
***
على ماذا تراهن واشنطن، وماذا عن التناقضات آنفة الذكر، وكيف تنعكس بمستويين، قوة وضعفاً؟
– في التوصيف الجيوسياسي تعد الهند «قطعة الشطرنج الثمينة» في صراع النفوذ ما بين الصين وأميركا، وتأتي أهمية الهند من موقعها الإستراتيجي في آسيا وكونها ثالث أكبر اقتصاد فيها، وخامس أكبر اقتصاد في العالم والأسرع نمواً.. وثاني أكبر جيش في العالم.
– حجم السوق الاستهلاكية في الهند سيصل إلى 6 تريليونات دولار في عام 2030، حسب بيانات المنتدى الاقتصادي العالمي، إلى جانب عمالة مهنية تقنية عالية المستوى، وبالتالي فإن الهند تتمتع بإمكانيات تجعل منها الشريك التجاري المناسب لأميركا في فترة التوتر المتصاعد بين واشنطن وبكين.
– تتجه الهند نحو تخطي الصين بمعدل نموها السكاني خلال هذا العام 2023، حسب تقديرات الأمم المتحدة في نيسان الماضي، لكن القوة لا تكمن في العدد بقدر ما تكمن في النوعية العمرية، حيث تتمتع الهند بمتوسط أعمار أقل بكثير من الصين التي تعاني شيخوخة متزايدة في نموها الديمغرافي، ما أدى إلى ارتفاع أجور وتكلفة العمل نتيجة النقص الحاصل في القوة العاملة، ويعود هذا إلى سن التقاعد عند 60 عاماً وهو الأقل في الدول الصناعية الكبرى، إضافة إلى تأثير سياسة الطفل الواحد التي انتهجتها الصين للسيطرة على نموها السكاني قبل أن تتخلى عنها لاحقاً. كما أن الصين لا تحاول تعويض النقص في العمالة الماهرة بفتح باب الهجرة، ونتيجة لذلك ارتفعت أجور العمال وبما أفقد الصين أهم ميزة لماكينتها التصنيعية الهائلة المتمثلة بعمالة رخيصة مقارنة مع الدول الغربية، وتحولها إلى نقطة جذب للشركات متعددة الجنسيات، ولكن دخول دول أخرى على خط التصنيع وبعمالة رخيصة، مثل فيتنام والهند، شكل بديلاً عن الصين.
– لكن الهند بالمقابل لا تتمتع ببنية تحتية قوية ومتقدمة كالتي تمتلكها الصين. ومن أجل استمرار عجلة النمو الاقتصادي وزيادة الثروة، على الهند أن توجد 30 مليون فرصة عمل سنوياً، وأن تستثمر المليارات في تطوير التعليم والصحة والبنى التحتية. وهي مهمة ضخمة تستلزم وقتاً وتخطيطاً واحترافية إدارية لا يبدو أن الهند متمكنة منها.
– تتمتع الهند بعلاقات وثيقة وشراكات اقتصادية مهمة مع الغرب، وتشكل العمالة الهندية الماهرة حجر الزاوية في العديد من الصناعات ذات التكنولوجيا العالية، وأصبح وجود رئيس تنفيذي ذي أصل هندي في إحدى شركات وادي السيليكون أمراً معتاداً وشائعاً.. لكن وفي المقابل، تحاول الهند إقامة توازن في هذا الخصوص، فهي تتمتع بعلاقات جيدة مع روسيا، والتزمت موقفاً محايداً تجاه الحرب على أوكرانيا، ولم تنضم إلى حملة العقوبات الأميركية/ الغربية ضد موسكو، بل عزّزت العلاقات الاقتصادية معها، وأضحت الهند من أكبر مستوردي النفط والغاز الروسيين إلى جانب الصين.
– تعكس عضوية الهند في مجموعات وتحالفات متضادة ومتناقضة نهج نيودلهي في محاولة المناورة واللعب والاستفادة من جميع الفرص. فالهند عضو في مجموعة «بريكس» وفي تحالف «كواد».. ولا تخفي أنها تحاول شق طريق ثالث لها بعيداً عن الاستقطابات.
وحسب مركز «وودرو ويلسون» في واشنطن فإن الولايات المتحدة تحاول الاستثمار في العداء التاريخي- الحدودي – بين الهند والصين والذي وصل حد النزاع العسكري في عام 2020 بمعنى أن الصين هي مصدر قلق ومخاوف أمنية للهند كما هي للولايات المتحدة. ويضيف المركز إن الولايات المتحدة وبعض حلفائها ذوي التفكير المماثل ينظرون إلى الهند باعتبارها شريكاً رئيساً في المنافسة مع الصين. وهذا ما يفسر، برأيه «الزيادة في مبيعات الأسلحة الأميركية للهند، فضلاً عن الجهود الأخيرة التي بذلتها أميركا والعديد من الشركات الغربية الكبرى لوضع الهند كثقل اقتصادي مواز للصين، ما أدى إلى نقل مراكز إنتاج شركات التصنيع والتكنولوجيا الكبرى إلى الهند، ومنح الهند دوراً أكثر بروزاً في تنويع سلاسل توريد أشباه الموصلات التي تهدف إلى تقليل الاعتماد على الصين».
***
لكن هذا المستوى العالي من التعاون يُعرّض الهند للمزيد من الضغوط الأميركية وبما يضيق معه هامش المناورة والتحرك ويُدخلها في أتون صراع يُبطئ عجلة النمو الاقتصادي ويفرض مخاطر إستراتيجية على خطط التنمية وتوسعة النفوذ.
ويرى مركز الدراسات الأميركي أن سبب نجاح الهند – حتى الآن – في تحقيق التوازن في علاقاتها مع القوى الدولية المتنافسة هو أنها استطاعت الحفاظ على موقف الحياد المدروس من خلال التمسك بالبقاء خارج «نظام التحالف التام» بمعنى أن الهند تنظر إلى الصين على أنها تهديد إستراتيجي لكنها لا ترغب في الانفصال عنها اقتصادياً.
ويذكّر مركز وودرو ويلسون بأن الهند رفضت حتى الآن جميع الاقتراحات الأميركية للعمل ضد الصين، ما يعني أن على واشنطن استبعاد أي نوع من التعاون العملياتي (العسكري) ضد الصين ويقول:«الهند هي نصير قوي لإستراتيجية المحيطين الهندي والهادئ، وكلاهما يهدف إلى مواجهة الصين، لكن تبنّي هذه المبادرات المضادة للصين لا يعني التحالف رسمياً مع الولايات المتحدة والانخراط التام والكامل في مبادراتها».
ويختم المركز بسؤال: إلى متى ستتقبل الولايات المتحدة هذه المواقف من الهند، وإلى متى تستطيع هذه الأخيرة المناورة وعدم الانجرار إلى ما تريده الولايات المتحدة؟
أما فيما يخص روسيا فإن الهند ستبقى تحت المراقبة الأميركية خصوصاً دورها في مجموعة بريكس ومن ضمنها العلاقات مع روسيا، وما ستؤول إليه الأحوال الأميركية الهندية في ضوء القرارات التي ستتخذها قمة بريكس الشهر الماضي ومن ضمنها مسألة اعتماد عملة منافسة للدولار، أو على أقل تقدير استبعاد الدولار لمصلحة العملات الوطنية لدول المجموعة.
لا شك أن النصف الثاني من هذا العام سيكون حافلاً بالتطورات، وجميعها ستتخذ مساراً تصعيدياً كما يبدو، وقد نكون بمواجهة مفاجآت تقلب العديد من الموازين الدولية.. وحتى نشهد أول هذه التطورات أو المفاجآت، لنبق أعيننا على الهند وعلى مسار علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية.
كاتب وأكاديمي عراقي