في مناخات الأبيض والأسود.. «ماريّا يوسف» والغرافيك الأكثر اختزالاً للعاطفة

تشرين- علي الرّاعي:
البعض، يعدّها تمهيداً، أو عتبة للدخول في تلوين التجربة، بمعنى، ثمة الكثير من الفنانين التشكيليين تكون إرهاصات التجربة الفنية لديهم تبدأ بالأسود والأبيض، أو ما اصطلح على تسميته في المشهد التشكيلي بـ(الغرافيك)، والبعض الآخر، يعدّها مرحلة ما، ربما تكون بعيدة عن البدايات مثالها تجربة الفنان علي مقوص، بينما بعضٌ ثالث لا يملُّ من أن يعود إليها عند كل اشتياق للتقنين وغوايات اللونين الأسود والأبيض، وهذا ما نلمسه عند الفنان عمّار الشوّا على سبيل المثال في ارتداداته الغرافيكية، لكنْ ثمة بعضٌ رابع يقتصر كل شغله على جماليات الأبيض والأسود، وأظن المثال الأهم في هذا المشهد الملون، هو الفنان يوسف عبد لكي الذي أوقف كامل تجربته الفنية على معطيات هذين اللونين، بل واقتصرها على شواغل إبداعية بعينها، قدمها من خلال هذين اللونين من دون سواهما.
الفنانة التشكيلية ماريّا يوسف، ليست بعيدة كثيراً عن غوايات عبدلكي ولاسيما لاقتصار تجربتها على غوايات اللونين الأبيض والأسود، وإن نوعت إلى بقعٍ لونية في تكثيفٍ شديد لألوان أخرى، ولاسيما (بقعها الحمراء) التي اشتغلت عليها لتزيد من إظهار جماليات الأبيض والأسود، وهي ليست بعيدة عن عبد لكي لجهة البيئة، فالاثنان من شمال شرق سورية، وتحديداً الحسكة، غير أنهما سيتفارقان بالشواغل، والتي اتجهت من خلالها ماريّا يوسف صوب حالات نسوية تنوس بين حالات رومانسية عاطفية، وتصعد بها لتكون أقرب لحالات «جندرية»، فيما يخص القضية النسوية في هذا العالم منذ قديمه إلى اليوم.
في أعمال الغرافيك لماريّا يوسف، تبدو مشغوفةً ليس بالاقتصاد اللوني، والذي تقصره على الأبيض والأسود، بل والاقتصاد بتكوينات اللوحة بشكلٍ عام.. إذ تمنح اللوحة لديها الكثير من المدى، والذي يظهر في التكوين من خلال تكثيف حالة نسوية ما واختزالها، هنا تكون من الشفافية حيث تمنحك «ردة الفعل» لا الفعل نفسه، وهنا تصرّ علىُ أن تُظهر روح الأشياء، لا الأشياء نفسها، وكذلك عطر الأنثى لا امرأة بعينها، وتأتي بـ«بقع» تلويناتها المُغايرة، لتؤكد كلَّ ما تقدم من حالات رومانسية ووجدانية، وربما تزيينية في نهاية المطاف كمن يضع نقطة على السطر تنبيهاً على نهاية النص.
في تكويناتها التشخيصية النسوية، قليلاً ما تضع وجه شخصياتها في مواجهة مُباشرة مع المُتلقي، وإنما دائماً ثمة تكوين لامرأة تتكور بخفرٍ وبحالة أقرب إلى الجنينية والاحتماء، فهي إما تُديرُ وجهها صوب جهةً ما، خشية التقاء، أو تسدلُ عليه سواد شعرها، ليُغطي الكثير من الوجه، وإما في حالة المواجهة – وهي نادرة- فتترك النظرات للمخاتلة وفتح أبوابها لتأويل وقراءة كلّ متلق حسب وعيه وتذوقه، وحتى حسب مشاعره وحالاته النفسية.

هنا ثمة مُفارقة، وهي تبدو لعبة ماريّا يوسف اللونية، فالظن كان أنّ الاقتصاد اللوني، ستُقابله وفرة في التكوينات، غير أنّ ما اشتغلت عليه الفنانة كان على عكس هذه الرؤية تماماً، فالاقتصاد اللوني، قابله اقتصاد بالتكوين أيضاً، وما تظهره من المرأة – على سبيل المثال – بعض من جسدها، ونادراً ما تظهرها كاملة، كما لا تحشد في المشهد عناصر ومعطيات تشكيلية أخرى في اللوحة يكون مساعداً للون، أو يُغني عن اقتصاده وتكثيفه وحتى اختزاله وتحويره، وإنما هي تُراهن على (الاقتصاد) في اللون، وحتى في التكوين، تماماً كمخرجٍ مسرحي يختص، أو اختصّ بشكلٍ مسرحي واحد هو (المونودراما)، حيث يكون الرهان كاملاً على الممثل وحيداً على الخشبة ليقول كامل الحكاية، وهكذا ماريّا يوسف تعوّل على كل هذا التكثيف والتحوير والاختزال والاقتصاد ليقولَ كلَّ الغواية اللونية والمشهد البصري، في حالةٍ أشبه بـ«الغرامية» مع الأسود، سواء كان رصاصاً أو حبراً.. وربما يكون هنا الحبر الأسود، أو الغرافيك الحالة الأكثر اختزالاً للعاطفة أو للطاقة الشعورية، ومن ثمَّ الحميمية – كما يرى الفنان علي مقوص على سبيل المثال- وربما كانت النساء اللاتي يحملن تأثيراتِ الضّوء قد دفعنها لفهم القيم الغرافيكية وأهميتها في صياغة البعد الشعوري المتعلق بتراجيديا الزمن في اللوحة، فهي تعمل لتوليف الحس البصري الغرافيكي مع التصويري.. إذ نرى هاجساً مستمراً لدى الفنانة ماريّا للبحث عن توليفات جديدة مؤثرة واستثنائية بخصوصيتها.. وذلك بأهمية فهم جدليةَ العلاقة بين الحبر الأسود والضوء الأبيض.. فهي تحاول أن تُثري فهمها لهذه العلاقة.. كما ويمكن أحياناً أن يمنحَكَ الحبرُ الأسود الإحساس بماهية المادة وخصوصيتها, لأنه الأكثر تلاحماً مع فلسفة العلاقة بين الزمن والمادة، وهذا ما نجده دائماً في تنويعات هذه التجربة اللونية.. التي من ملامحها أيضاً: نزوعها صوب حالة (كارتونية)، أقرب إلى حالة طفلية، وذلك من خلال البساطة في اللون، وكذلك التأكيد على الخط، أو الخطوط وإظهارها بشكلٍ واضح، ويبدو الأمر أسلوباً تعتمده الفنانة ليُميزها في الساحة التشكيلية الواسعة، إضافةً لهذا الملمح، ثمة ملمحٌ آخر كنا أشرنا إليه، وهو أن شواغل اللوحة كانت دائماً المرأة، وذلك بالاشتغال عليها تحويراً واختزالاً.. تلك الملامح التي كانت عدّتها لتجد لها مكانها اللائق في المشهد التشكيلي السوري.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
أميركا تعود إلى مسار «اليوم التالي» بمقايضة ابتزازية.. و«كنيست» الكيان يصوّت ضد الدولة الفلسطينية.. المنطقة مازالت نهباً لمستويات عالية المخاطر مع استمرار التصعيد شهادتا تقدير حصاد المركز الوطني للمتميزين في المسابقة العالمية للنمذجة الرياضية للفرق البطل عمر الشحادة يتوج بذهبية غرب آسيا للجودو في عمّان... وطموحه الذهب في آسيا مسؤول دولي: أكثر من ألف اعتداء إسرائيلي على المنشآت الصحية في قطاع غزة برسم وزارة التربية.. إلى متى ينتظر مدرسو خارج الملاك ليقبضوا ثمن ساعات تدريسهم.. وشهر ونصف الشهر فقط تفصلنا عن بدء عام دراسي جديد؟ إعلان نتائج انتخابات مجلس الشعب للدور التشريعي الرابع.. القاضي مراد: الانتخابات جرت بإشراف قضائي كامل بدءاً من الترشيح وحتى إعلان النتائج السفير الروسي في لبنان: لا يمكن لأي بنية مدنية أن تكون هدفًا لنزاع مسلح وروسيا التزمت بذلك ما الغاية والهدف من إقامة معسكر تطوير مهارات كرة السلة للمواهب الواعدة ؟ "لوثة" تنعش سوق الاستطباب الخفي في سورية.. اضطراب تشوه صورة الجسد حالة نفسية تلاحق الجنسين..والنتائج غير حميدة ترامب ومؤيدو بيتكوين.. العملات الرقمية مخزن للقيمة وأداة للتحوط ضد الاضطرابات السياسية