«المصري» و«صقال» و«يكن» يغالبون الزمنَ في معرضهم «لوحات ورسوم»
تشرين- بديع منير صنيج:
أكثر ما يميز معرض «لوحات ورسوم» للفنانين مأمون صقال وسعد يكن ومنذر مصري في «غاليري البيت الأزرق» في دمشق، أن أعمالهم التشكيلية لم تفقد بريقها رغم مرور ما يزيد على النصف قرن على توقيعهم عليها، ما يثبت أن البحث الحقيقي للمُصوِّر عن أسلوبه الخاص في بداية حياته الفنية يحمل الكثير من الأصالة القادرة على تجاوز الزمن.
وعلاوة على ذلك، فإن لوحاتهم ورسومهم تتضمن في ثناياها متعة من نوع فريد، إذ إنك تتلمّس هوس الفنانين الثلاثة وهواهم التشكيلي في مراحله التأسيسية، على صعيد الموضوعات والتكوين وقوة الخطوط والألوان المستخدمة، والأهم على مستوى التفكير بخصوصية لوحة كل منهم، حتى لو كانت أقرب إلى تمارين في الرسم.
لكن تلك التمارين وما تضمّنته من تجريب في الخط واللون والإضاءة والظلال ودراسات مختلفة للمنظور، حملت في طيَّاتها شغفاً واضحاً وتمكُّناً في الأدوات، جعلت من اللوحات والرسوم المعروضة، إلى جانب جمالياتها العديدة، بمنزلة حنين إلى ماضي الأيام، ومغامرة زمنية لثلاثة فنانين ما زالوا في طور الهوى التشكيلي والبحث المستمر عن مزيد من الخصوصية والجمال.
هذه المغامرة تترك أثرها مباشرةً على المتلقّي للأعمال الفنية في غاليري البيت الأزرق، ولاسيما بعد أن يعلم أنّ كثيراً منها نجت من عدة حرائق تعرّض لها مرسم منذر مصري، وما زالت آثار تلك الحرائق ماثلة على أطراف بعض اللوحات، وليأتي هذا المعرض بمنزلة نجاة من نوع خاص، وإثراء للذاكرة التشكيلية من خلال استعادة بدايات ثلاثة مُصوِّرين رغم تحوُّلات مصائرهم الفنية.
مأمون صقال خسرته الساحة التشكيلية السورية بعد اعتكافه الصوفي في الخط العربي وتميُّزه فيه لدرجة أنه صمَّم خطَّاً خاصاً به اعتمدته شركة مايكروسوفت في برامجها كلها، ومنذر مصري الذي بات اسماً له وقعه الفريد في الشعر السوري، ولا سيما مع سَبْرِه المستمر في اللغة والدلالة والتصاوير الشعرية، أما سعد يكن فهو الوحيد بينهم الذي مازال مستمراً في شغفه التشكيلي من دون أن ينازعه عليه هوىً فني آخر.
ولعل أبرز تكثيف لهوية هذا المعرض الذي يستمر حتى 20 الجاري، تتجلى في البطاقة المعروضة في بهو البيت الأزرق والتي أرسلها يكن لمصري نهاية عام 1971 وهي لوحة جميلة مع نص آسر جاء فيه: «صديقي الحبيب منذر.. الأشياء تبقى خالدة لأنها لا تعرف الزمن. ما أسخف الإنسان، إنه يحصر نفسه ضمن عقارب الزمن. الإنسان يكتب عن الإنسان قصصه.. هل نظرت إلى الأشياء التي حولك؟ لك معها، مع كل قطعة، حكاية.. قصة.. انظر…الأشياء تسخر من الإنسان».
ويتابع: «سأرسل لك هدية صغيرة بعد أسبوع.. أرسم بشكل طبيعي.. صحتي ليست جيدة.. أرسم بشكل جيد.. أشتاق لك.. بلِّغ تحياتي للجميع.. غداً سأذهب إلى حفلة حلوة. أرسل لي قصيدة- يا صانع الولادة وغيرها.. ما أخبارك؟ ليس لديَّ أحد.. التدريس متعب.. هل تعمل؟ هل تحب؟».
السخرية من الزمن تمَّت من خلال تعزيز جماليات تشكيلية لا تنتهي، واللعب على الذاكرة البصرية، ومحاولة النَّبش فيها بما يحقق تحرُّراً من نوع خاص، واحتفاءً بما أُنْجِزَ قبل خمسين عاماً، لكنه ما زال محتفظاً بطراوته وحيويته وقدرته على الإدهاش.
وكأن هذا المعرض هو تلك الـ«الحفلة الحلوة»، وهو سؤال عن حال الأصدقاء لكن بصيغة مغايرة، ويمكن القول أيضاً إن اللوحات والرسومات أشبه ببداهة قصيدة بدائية تحمل في ثناياها كل أسباب البقاء والاستمرار، من دون أن تفقد مقوِّمات جماليات لغتها وغزارة معانيها والمتعة الكامنة في تفاصيلها وأسلوبها.
ستلفتك في الأعمال أن الفنانين يرسمون بعضهم برهافة العارف، وستجذبك خطوطهم المختزلة إلى أبعد حد، لكنها مع ذلك مفعمة بالمعنى والدلالة، وهناك الاستخدامات المتنوّعة لألوان الفحم والحبر الصيني وألوان الشمع وتقنيات الحفر والطباعة الملونة والتلوين بالإكليريك والمائي، إذ إن القاسم المشترك الأكبر لجميع لوحات المعرض ورسومه هو محاولة اقتناص الزمن وأسره في إطار جمالي، لدرجة أن اختلاف الموضوعات يصبح هو الآخر لعبة ومغامرة في التوثيق التشكيلي للأشخاص والأشياء.
وبين المجاهرة بالتجدّد وعدم الركون إلى النمط الواحد، وبين اشتهاءات التجريب المستمرة سنشاهد ما يزيد على الخمسين عملاً بين لوحة ودراسة تحقّق الكثير من المتعة لما فيها من تنوّع وشغف واضح يصحّ معه القول: إن الفن هو الأقدر على جعل الإنسان يتحرّر من عقارب الزمن.