الشعرُ من الرجز إلى المجالس (النابغة) أول مَنْ اتخذ الشعرَ وسيلةً للتكسّب

تشرين- علي الرّاعي:
يعدّ الكثير من الباحثين أن النثر المُسجّع الذي ابتكره الكهّان والعرّافون هو أولى خطوات الابتداع الشعري عند العرب، في حين أنّ الخطوة التالية؛ كانت في الحُداء، أي إنشاد حُداة العيس. ومن هنا لا يُستبعد ما افترضه العرب من أنّ أصل الشعر هو محاولة حادي العيس الإنشاد على خُطا ناقته. وقد نشأ الرجز وتقطيعه (مُستفعلن) مكررة ست مرات، وهو أقدم بحور الشعر وأبسطها، ولهذا قيل: الرجز بكر الشعر، والسجع أبوه، والحداء أمه. وأما أقدم شعر مدوّن وأطوله فهو ما أنشده المُهلهل – الزير سالم- المتوفى سنة 531م، بطل تغلب في حرب البسوس مع بني مُرّة قبل الإسلام بمئة وثلاثين سنة.
سبب هذه اللمحة التاريخية للشعر عند العرب هو الكتاب الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب لمؤلفه محمد جميل الحطاب بعنوان «المجالس الأدبية عند العرب» هذا الكتاب الذي يذهب منحى الموسوعات في هذا الإسهاب التاريخي لتصاعد الحركة الأدبية عند العرب والتي على الأغلب لم تنفصل عن الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل كان التداخل هو السمة لهذا الأدب الذي كان في مُعظمه شعراً حتى آخر صالون أدبي في القرن الحادي والعشرين. فإذا فاخر الإغريقي بما عنده من تماثيل الفن ومنشآت الهندسة؛ فالعربي يرى قصيدته أفضل ما يُعبّر عن خلجات نفسه، حتى كان من أمثال العرب: جمال المرء في فصاحة لسانه. هذا الشعر الذي نشأ تام النمو تقريباً، والذي كان يظهر في أيام العرب ووقائعهم، بمعنى كان أشبه بالجريدة الرسمية؛ كان أغناه شعر المجالس، أو ما يُعرف اليوم بالصالونات الأدبية، تلك المجالس التي اتخذت هيئة الأسواق التي هي أقرب إلى مهرجانات التسوق والسياحة اليوم، أو مجالس الملوك والخلفاء، وحتى صالونات الشخصيات العامة المتذوقة للشعر على وجه الخصوص، لأنه أصبح هناك اهتمام ولو بدرجة أقل ببقية الأنواع الأدبية ولاسيما الفلسفة والموسيقا في عصور متأخرة. وفي رأي الباحث الخطاب، فقد قدّم شعر المجالس معلومات قيّمة كشفت للباحثين مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية والعلمية، وسلطت الضوء على ما كان يدور في هذه المجالس من أحداث بتنوُّع روّادها على اختلاف ثقافتهم كاشفة عن الأنشطة الفنية والنقدية التي ساهمت على تواضعها في تمييز جيّد الشعر من رديئه. كما كانت هذه المجالس مُختبراً أدبياً حقيقياً فيه يكون الامتحان بطرح الأسئلة وانتظار الإجابة. وهنا نذكر أن المُعلقات السبع التي تحتل المقام الأول بين القصائد العربية كلها قبل الإسلام، لها الحظوة الكبرى في العالم العربي إلى اليوم، وقد ورد في الروايات أنّ كلاً من هذه المعلقات استجيدت، ونالت قصب السبق في سوق عكاظ السنوية، وأنّها راقت الناس فكُتبت بماء الذهب وعُلقت على أستار الكعبة. تلك السوق التي كانت تُقام بين (نحلة والطائف والحجاز) سنة تلو أخرى، فجاءت كناية عن مُجمّع أدبي أمّه فحول الشعراء يتبارون بقصائدهم للفوز. هذه السوق التي لم تكن للمباراة الشعرية فقط، وإنما كانت هذه السوق التي تبدأ من أول ذي القعدة وتستمر حتى العشرين منه، إذ يقيم العرب أيامها يتهيؤون للحج، ويتبايعون ويتناشدون، ويتفاخرون ويتقارعون ويتنافرون، ويتعاظمون أيضاً. ثم كان الشعر في بلاط الغساسنة والمناذرة وبداية نشوء شعر التكسب، وظهور شاعر البلاط، إذ يعدّ الباحثون أن النابغة الذبياني أول من اتخذ الشعر وسيلة للتكسب.
وكان سوق المربد في البصرة قد ورث سوق عكاظ بعد سنين طويلة، والذي يُشبهه في أمر الشعر وحلقاته، بل ويزيد عليه، فلكل شاعر حلقة، ولكل مُتهاجيين مجلس، ولكل قبيلة نادٍ، وشاعر يذود عنها، ويردُّ عدوان قريعه من القبيلة الثانية. واللافت أنه كانت دائماً ثمة انعطافة في تنامي الشعر العربي تُضيف لمسيرة الشعر الذي لم يُعرف للعرب أنهم أبدعوا أكثر مما أبدعوا فيه. فمن المربد وعلى هامشه غذِّي الأدب بقصص وأساطير كما غُذّي التاريخ بالأخبار الواقعة، ووضع من وضع من الرواة والإخباريين أحاديث حاكوا بها ما وقع. ثم كانت مجالس معاوية الذي كان يستقدم الشعراء والأدباء والخطباء إلى مجلسه، ويستمع إلى قصائدهم ومناظراتهم وآرائهم، ويُشارك بها في شعره. كما أولى خلفاء بني أميّة والعباسيون الشعر عناية فائقة، فقربّوا الشعراء، وأغدقوا الأموال الطائلة، لما عرفوا لهم ولشعرهم من أثر في توطيد دعائم الحكم، كما أصبحت المجالس ميداناً خصباً لتنافس الشعراء، ورواقاً فسيحاً لنقد الأدباء إذ أذكى الخلفاء نار المنافسة.

هذا الشعر الذي رغب الأندلسي فيما بعد بالتناسق الموسيقي الذي تختلج به القلوب والشفاه، ولأنه كلام مُجنح وموسيقي قبل أن يكون ألفاظاً، فهم يغنونه ولا يلقونه إلقاءٍ. وعهد ملوك الطوائف كان عهداً لاقى فيه الأدباء والشعراء كل رعاية وعطف الملوك الذين كانوا هم أنفسهم شعراء. هذه الحركة الشعرية التي ستبلغ ذرا أمجادها في مجالس سيف الدولة الحمدانية (944-967م) الذي أحاط نفسه بأرباب الأدب والفن والفكر، إذ لمع الفيلسوف الفارابي، والمؤرخ الأصفهاني، وأصحاب البلاغة: ابن خالويه، وابن جنّي، كما برز الشاعران أبو فراس الحمداني والمتنبي. وانتقلت القصيدة العربية إلى بنية جديدة وشواغل مختلفة، ولم ينس الباحث الحطاب في هذا الإسهاب البعيد عن المجالس الأدبية عند العرب ودورها في مختلف مناحي الحياة أن يُعرّج على مجالس النساء ، إذ اشتهرت امرأتان في هذا المجال: سُكينة بنت الحسين المولودة سنة (47 هجرية)، ومجلس ولادة بنت المستكفي (994-1091م).

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار