الانتحار.. صرخة احتجاج ضد الحضارة
تشرين- د. رحيم هادي الشمخي:
إنه لشيء غريب أن يقرر شخص ما أن ينهي حياته بيديه لا بيد القدر، وسواء كان ذلك الشخص في هذه الدولة أم تلك، وأياً كانت أسباب الخلاص من الحياة، إلا أننا أمام الحقيقة نفسها، وهي التفكير في وضع حد للحياة وتنفيذه فعلياً، بمعنى آخر تعددت الأماكن، وتعددت الأسباب والانتحار واحد، وبصرف النظر عن الدوافع المختلفة للشخص المنتحر، فإنني أعتقد أن انتحاره هو وصمة عار في جبين البشرية، تلك البشرية التي تفتخر بإنجازاتها المتطورة في كل مجال، وتعجز عن مقاومة حالات الانتحار التي تحدث يومياً على امتداد الكرة الأرضية.
هذه الحضارة العالمية – التي تحاصرنا جميعاً بسبب العولمة- عليها أن تخجل من الأسس التي تقوم عليها، والتي تدفع الناس إلى الموت، حضارة المالك والقوي والمسلح، الذين يحكمون ويصنعون قرارات الحروب، ويخلقون المجاعات والفتن والطائفية والتضليل وترويج كل أنواع التفرقة والتمييز ضد البشرية عملاً بمقولة (فرّق تسُدْ)، حضارة لا تبالي بأشياء أساسية جداً لبقاء أي حضارة، أو ضرورية جداً لسعادة الإنسان وتمسكه بالحياة، فهي لا تبالي بالعدالة أو الحق أو المساواة أو الحرية أو الإنسانية متكاملة الأبعاد، أو منع الحروب أو حظر تجارة السلاح أو إعلان الحقائق.
حضارة تنفق المليارات لتجميل النساء، بينما تبخل بـ«الملاليم» على الجياع والمشردين في العالم، وهي ترصد لإنتاج الأسلحة الأرقام الفلكية المتزايدة، لكنها تفرض الشروط التعجيزية لاستيراد القمح ومواد غذائية أساسية لبلاد أغلبيتها تحت خط الفقر، وتحت خط الجوع، وتحت جميع الخطوط الإنسانية في حدودها الدنيا، مثل هذه الحضارة تنتج الحروب والتعصّبات الدينية والعدوانية في سلوكيات البشر، والعنصرية والكراهية والعنف في الممارسات الفردية أو بين الجماعات والدول، وتنتج الأجهزة والصواريخ، لكنها لا تنتج بشراً سعداء، هي ليست حضارة قدر كونها بلطجة دولية تتستر بغطاء الشرعية والديمقراطية والحرية وحماية الخصوصية والحفاظ على الهوية.
إنها حضارة تحكمها الهيمنة لا الحق، هي ضد الإنسان وضد نفسها وضد القيم الأربع لازدهار الحياة وسعادة البشر، وهي: العدل والخير والجمال والحب.
لا أعتقد أن شخصاً ما يفكر في الانتحار ويقدم عليه في حضارة عادلة خيرة جميلة تمارس الحب لا الحرب.
إن حالات الانتحار في العالم تقول على لسان أشخاصها: «لقد أصبحت الحياة أثقل مما أستطيع تحمله»، وهكذا نجد أن كل شخص منتحر يشير بإصبع الاتهام إلى هذه الحضارة غير الإنسانية القاتلة، التي تسمم الحياة وتجعل بعض الأشخاص يفضلون قتل أنفسهم على الاستمرار تحت سماء هذه الحضارة.
وأخيراً، سوف تظل أرقام الانتحار تفزعنا، وسوف يظل هناك ضحايا لهذه الحضارة – سواء قتلتهم هي بأسلحتها وحروبها أو دفعتهم إلى قتل أنفسهم- ما لم تتغير الأسس التي تقوم عليها هذه الحضارة آكلة لحوم البشر ومصاصة دماء الأفراد والجماعات التي تفضل رؤية الجثث عن رؤية الورود.