ملف «تشرين».. بين «اليوان» و«الدولار» المعركة تحتدم.. من سيفوز عالمياً؟
تشرين- د. رحيم هادي الشمخي:
في الـ13 من حزيران الجاري، أقرت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين بأن العقوبات الأميركية تحفز الدول للبحث عن أدوات تسوية بديلة عن الدولار، وذلك خلال جلسة استماع أمام اللجنة المالية التابعة لمجلس النواب الأميركي، لكنها بالمقابل قللت من أهمية هذا المنحى، معتبرة أنه «لا يوجد طرق مهمة أمام معظم الدول للتحايل على استخدام الدولار».
ويبدو تصريح يلين إشارة غير مباشرة إلى العملة الصينية «اليوان» التي بدأت توسع مساحات تواجدها في ساحات التجارة الدولية.
في اليوم نفسه كانت باكستان تعلن على لسان وزير نفطها مصدق مالك، أنها اشترت النفط الخام الروسي بسعر مخفض، بالعملة الصينية وهو الأمر الذي اعتبره الخبراء الاقتصاديون تحولاً كبيراً في سياسات باكستان للمدفوعات الخارجية التي يهيمن عليها الدولار الأميركي.. وبالنسبة لباكستان فإن الاتفاق الذي أبرمته مع روسيا الشهر الماضي لشراء النفط الروسي بسعر مخفض وبالعملة الصينية، يشكل متنفساً لها في وقت تكابد فيه أزمة اقتصادية عميقة ومشكلة حادة في ميزان المدفوعات.
باكستان مثلها مثل كثير من الدول التي لكل منها أسبابها لاستبدال الدولار في معاملاتها التجارية، ولتوسيع خياراتها وشراكاتها مع قوى أخرى بعيداً عن أميركا وعن سطوة دولارها.
الصين قوة دولية مقبولة من الجميع لذلك لا تجد صعوبة في تسويق عملتها بصورة مباشرة
أو غير مباشرة عن طريق شركائها التجاريين الذين يتعاظمون عدداً وقوة
في اليوم التالي، نشرت صحيفة «نيويورك بوست» الأميركية تقريراً يؤكد أن العقوبات المفروضة على روسيا قادت لتخلي العديد من الدول عن الدولار، معتبرة أن هذا الأمر سيوجه ضربة لمكانة الولايات المتحدة وقدرتها على إبراز قوتها على الساحة الدولية، ويضيف تقرير الصحيفة أن مئة دولة على الأقل لم تدعم العقوبات على روسيا الأمر الذي أدى لظهور تحالفات اقتصادية تستخدم عملات أخرى لبيع البضائع، وعلى رأسها، اليوان الصيني.
فعلياً، لا يكاد يمر أسبوع دون أن نسمع عن انضمام دول جديدة لمسار الابتعاد عن الدولار، لمصلحة العملة الصينية أو لمصلحة عملاتها الوطنية، ولأن الصين باقتصادها العملاق واتساع مساحة تواجدها التجاري على الساحة الدولية فإن عملتها «اليوان» تتصدر وتبرز كمنافس حقيقي للدولار الأميركي، باعتبارها عملة مقبولة من قبل الجميع تبعاً لأن الصين قوة دولية مقبولة من قبل الجميع، لذلك فهي لا تجد صعوبة في تسويق عملتها بصورة مباشرة، أو غير مباشرة عن طريق شركائها التجاريين الذين يتعاظمون عدداً وقوة.
تتابع أميركا مسار صعود اليوان، دون أن يكون إطمئنانها لقوة دولارها على المستوى ذاته، فإذا كان أحد أعظم ركائز زعامتها العالمية نابع من الدولار كعملة احتياط عالمية لا غنى عنها، فإن هذا الدولار يستمد قوته بصورة أساسية من قاعدة «البترو- دولار» أي تسعير الطاقة (النفط والغاز) بالدولار، هذه القاعدة مستمرة منذ الاتفاق الأميركي الشهير مع السعودية في سبعينيات القرن الماضي لتسعير نفطها بالدولار، الأمر الذي قاد الدول تباعاً لفعل الأمر نفسه، نظراً لموقع السعودية كأكبر منتجي النفط في العالم، ولمكانتها في محيطها والإقليم، عدا عن كونها ضمن أبرز أعضاء منظمة أوبك، ولأن هذه المنظمة تضم أكبر منتجي النفط في العالم، فإن قرار ربط بيع النفط بالدولار الأميركي انسحب على أعضاء أوبك مما أكسب الاتفاق السعودي الأميركي القوة الصلبة للانطلاق بالدولار ليكون العملة المهيمنة عالمياً.
وعليه، فإن الدولار الأميركي بدوره يستمد قوته من السعودية نفسها، فإذا ما قررت السعودية التخلي عنه، فإننا سنشهد عملية عكسية، حيث ستحذو الدول حذوها مجدداً في التخلي عن الدولار.
لكن ما يمكن تسميته بـ«العامل السعودي» هو سيف ذو حدين، فبقدر ما أن أميركا مطمئنة على دولارها لأن السعودية لم تتخلَ عنه، بقدر ما هي أكثر قلقاً وبصورة متصاعدة بفعل التوترات مع السعودية والتي تعجز حتى الآن عن وقف مسارها التصاعدي، هذا عدا عن توجه السعودية وأقرانها شرقاً باتجاه ألد الخصوم، الصين وروسيا.. وإعلانها صراحة أنها لا تمانع تسعير نفطها بعملات أخرى غير الدولار، ومن بينها العملة الصينية.
في آذار الماضي نشرت وكالة «بلومبيرغ» الأميركية تحليلاً حول اليوان والدولار، خلص إلى أنه «ما لم تقرر السعودية وغيرها من الدول النفطية في الشرق الأوسط تسعير النفط باليوان فإن الدولار سيظل متربعاً على عرش النظام المالي العالمي».
لذلك لا تستطيع أميركا إلا أن تتبع اليوان (عالدعسة كما نقول في عاميتنا) ليس فقط في منطقتنا ودولها النفطية، بل مع توجه عدد متزايد من شركاء الصين التجاريين إلى حسم التجارة معها باليوان بدلاً من الدولار، ما يجعل الحديث عن صعود اليوان كعملة دولية منافسة – حسم وتسعير – خاصةً في التجارة العالمية.. حديثاً مُسيطراً، وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن صعود اليوان يأخذ مساراً تدريجياً مدروساً (بدأ فعلياً منذ عام 2009) كما هي الصين في صعودها الاقتصادي عالمياً، فإنه بلا شك يشكل تهديداً حقيقاً للدولار.
تعمل الصين على تعزيز عملتها باتجاه التدويل مستفيدة من التحولات الجيوسياسية العالمية
ومن السياسات الأميركية نفسها التي توسع حالة العداء العالمية لأميركا ودولارها
الصين لا تخفي أنها تعمل على تعزيز مكانة عملتها الوطنية باتجاه التدويل وباتجاه ما بات يُعرف بـ «بترو- يوان» بدلاً من «بترو- دولار» مستفيدة أولاً من كل ما يشهده العالم من تحولات جيوسياسية كبرى، وخاصة حرب أوكرانيا.. وثانياً من السياسات الأميركية نفسها التي توسع حالة العداء العالمية للولايات المتحدة خصوصاً نظام العقوبات والحصارات الاقتصادية التي تفرضها على الدول ما يدفعها للبحث عن مخارج ومنافذ تجدها في الصين بالدرجة الأولى ومعها روسيا.
لنأخذ مقارنة بين العام الحالي والعام الماضي لناحية احتياطيات العملات الأجنبية الرسمية وفق بيانات صندوق النقد الدولي التي تشير إلى أن نصيب اليوان عالمياً ارتفع من 2.76 في المئة إلى 10.92 في المئة إلى 12.28 في المئة. وهذا ليس بالمسار المطمئن للولايات المتحدة، رغم أن كثير من الخبراء الاقتصاديين البارزين حول العالم يشككون في مسألة أن يتجاوز اليوان الدولار باعتبار أن هذه العملية تتطلب بنى مالية تحتية على مستوى العالم لتحقيق الانتقال من العملية الأميركية إلى الصينية، وهذا غير متوفر، وهناك صعوبة كبيرة في توفيره.. ولكن أليس هذا ما تفعله الصين تحديداً، ألا تعمل على تأسيس هذه البنى المالية التحتية من خلال «الحزام والطريق» على سبيل المثال، وعبر تهيئة الدول سياسياً للانتقال إلى خطوات اقتصادية أوسع وأكثر جرأة باتجاه تنويع خياراتها واعتماد سلة عملات غير الدولار، وليس بالضرورة العملية الصينية.. مرحلياً يكفي اعتماد سلة عملات غير الدولار لتوجيه ضربة قاصمة لزعامة أميركا الاقتصادية.. ولتأكيد أن الدولار ليس قدراً محتوماً وأنه ليس من المستحيل إقامة عالم بديل لعالم الولايات المتحدة والغرب.
كاتب وأكاديمي عراقي
اقرأ أيضاً: