«على خُطا فيتزكارالدو» حكاية البحث عن الثروة في غابة الأمازون
تشرين- لبنى شاكر:
يُوجز الكاتب والناشط البيئي والسياسي التشيلي لويس سيبولبيدا 1949-2020، موقفه من المُغامِر والمُكتشِف كارلوس فيتزكارالدو في السطر الأول لقصته القصيرة: «إن كان عليّ كتابة السيرة الذاتية لِفيتزكارالدو فسأبدأ بالقول إنه كان رجلاً فقيراً لم تسمح له الأشجار برؤية غابة مانو»، وعلى أن هذا الاستهلال فيه من الوضوح والمباشرة الكثير، لكن الحقيقة التي يسوقها الكاتب لاحقاً، تحت عنوان «على خُطى فيتزكارالدو»، تحكي الفقر بشكلٍ آخر، وتعود بنا إلى زمن بعيد وعوالم لا نعرف عنها إلا القليل، تحديداً إلى القرن التاسع عشر، حيث نهر الأمازون العجائبي يسير إلى مصبه في المحيط الأطلسي، مارّاً باثنتي عشرة مدينة في البرازيل وكولومبيا والبيرو، وفي جنوب شرق الأخيرة تقع غابة مانو، موطن الحكاية.
ظلّت الغابة خافية عن أنظار الغزاة الجشعين قروناً طويلة، حتى إن القلّة الذين غامروا عبر أدغالها بحثاً عن الإثراء السريع، فُقِدوا بعد أن ابتلعتهم آليات الطبيعة في الدفاع عن نفسها أو خرجوا منها خائبين، يُخفون فشلهم خلف أكاذيب وادعاءات، أحدها كما يذكر الكاتب أنهم واجهوا جيوشاً من نساء الأمازون المتعطشات للدماء، يمرحن فوق جذوع الأشجار، بَيدَ أن ما شاهدوه لم يكن إلا حيوانات ثعالب الماء العملاقة، هكذا بقيت الأمور على حالها إلى أن قررت أوروبا والولايات المتحدة عام 1896 أن الثروة لن تكون من دون المطاط المرِن، والذي كان يخرج من سيقان الأشجار في حوض الأمازون، هنا يبدأ الحديث عن أحد أسوأ «المُغامرين» في العالم فيتزكارالدو، والذي يعده الكاتب متوحشاً وعديم الضمير، ولهذا كان فقيراً بما لا يقبل الشك.
تجربة المُغامِر في مانو، لا تنفصل في كثيرٍ من تفاصيلها عما يُروى عن اكتشاف الرحالة كريستوفر كولومبوس للعالم الجديد «أمريكا»، وما يأتي في سياقها تاريخياً من استعمارٍ واستيلاءٍ وإبادةٍ وتهجير، عايشته أقوامٌ وإثنياتٌ في مختلف بقاع العالم، لكنها كما يحصل دائماً، لا تصل إلى الناس كما غيرها لعشرات الأسباب، لذلك تبقى تفاصيلها وأسرارها مخفية، وهو ما يسعى سيبولبيدا لإنهائه، ومن المفارقة أن المُكتشِف عدّ بطلاً في عدة مراحل تاريخية، ورأى فيه البعض ناقلاً للمدنية في مواجهة الهمجية والبدائية، مع الإشارة إلى تفوقه كرجلٍ أبيض، وهي الخرافة العنصرية التي وجدت من يُروّج لها على أسسٍ تتهم الآخرين من بقية الأعراق والانتماءات بإنسانيةٍ أقل ووضاعةٍ أكثر.
يستعبد فيتزكارالدو آلافاً من سكان الجنوب الشرقي للبيرو لجمع قطرات عصارة شجر المطاط، يقول الكاتب «الشيء الوحيد الذي كان يسيل بكثرة هو دماء سكان الأمازون، أكثر التقديرات تفاؤلاً تتحدث عن مقتل ثلاثين ألف هندي في عامٍ واحد، كان ذلك هو اللقاء الكبير الأول بين مانو والحضارة الغربية، لكن مشوار الرجل لن يطول، فبعد عام وأثناء بحثه مُبحراً عن ميناء يعمل أيضاً كمحطةٍ للسكك الحديدية، تبتلع الغابة المُغامِر الدموي إلى الأبد، ويضع الكاتب احتمالاتٍ للحظاته الأخيرة، إذ يعتقد البعض أنه غرق ببطء في مستنقع، ويقول آخرون إنه بعد عدة أيام من إبحاره نام، واستغل السكان الأصليون ذلك، فقفزوا إلى الماء، وتركوه تحت رحمة التيار.
يتتبع الكاتب خُطا المُغامِر، ويبدأ باكتشاف مانو مجدداً، هذه المرة من تلٍ يرتفع أربعة آلاف متر فوق مستوى سطح البحر، ومع الهبوط شيئاً فشيئاً، يتغير المكان، بما يشبه المعجزات، وعلى حد تعبيره «كل شيءٍ ينمو ويحتل المزيد من الامتداد في كل مرة، كما لو أن إرادة الغابة القوية قد حددت أن حتى أصغر مساحة لن تُترّك من دون حياة»، ومن المفاجآت التي يسوقها لنا، أنه من بين تسعة آلاف نوع من الطيور التي تعيش على الكوكب، يتركز نحو ألف نوعٍ منها في مانو، كذلك فهي تضم نحو ثلاثين مليون نوع من الحشرات، كما تُشير الدراسات إلى أن عشرة آلاف من ثعالب الماء العملاقة عاشت في الأمازون، وانتهت جلود معظمها إلى تغطية بشرة السيدات الثريات في أوروبا والولايات المتحدة.
عام 1978 أعلنت اليونسكو غابة مانو موقعاً للتراث الإنساني، أما قصة «على خُطا فيتزكارالدو» فهي واحدة من ثلاثين أخرى للكاتب لويس سيبولبيدا في المجموعة القصصية «حكايا هامشيّة»، ترجمتها للعربية د. ريم منصور الأطرش، ضمن المشروع الوطني للترجمة في الهيئة العامة السورية للكتاب 2023.