«أكاديميّة الضحك»…كوميديا رقابة النصوص المسرحيّة
تشرين- لبنى شاكر:
الزمن وَحده يمنحنا الموافقة على تحويل المآسي والفواجع إلى كوميديا، تحديداً عندما تُصبح الأوجاع حكاياتٍ، تتغلّب فيها متعة الروي على استثارة النفور الآتي من ألمٍ ما، وإلا لَما أمكن اقتناص الضحك أو تصنيعه من وقائع مَهولة كالحروب والكوارث، وما في سياقها من أحداثٍ ونكباتٍ في دوائر تضيق شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى أن يجعل أحدنا من موقفٍ كاد يُودي بحياته نكتةً يكتبها في منشور في فيسبوك، أو يحكيها لأصدقائه مع فنجان قهوة، وعلى هذا كانت قضايا كالخيانة الزوجية والتحرش والفساد الوظيفي مثلاً مواد فنيّة نجحت في إضحاكنا مراراً، لكن ما الذي نفعله أمام المصائب المستمرة، أو لِنقل أمام التداعيات التي ترفض أن تنتهي، هل نضحك حين يُفترض بنا البكاء؟، ربما يكون الضحك استباحةً لحزنٍ كبير، لم يستطع الآخرون استيعابه والذهاب به إلى أبعد نقطةٍ في الذاكرة، النسيان، هل يعني هذا أن للضحك وقتاً حقاً؟.
هذه التساؤلات جزءٌ من معادلةٍ، أعادها الدكتور سمير عثمان الباش إلى واجهة التفكير، في مسرحيته «أكاديمية الضحك»، والتي مُددت عروضها على خشبة مسرح القباني حتى نهاية الأسبوع الجاري، بعد عرضٍ سابق العام الماضي في مدرسة الفن المسرحي في جرمانا، وكعادته في طرح الأسئلة الكبرى، بكلماتٍ ومَشاهد بسيطة، تجعل من أيِّ منا شريكاً معنياً في القضية، ضحكنا أمام حواراتٍ مُتتابعة، بين كاتبٍ ومراقب نصوص، يختلفان بشأن اختيار الزمن المناسب لإضحاك الناس، ويتشعّب خلافهما نحو اختيار ما يُمكن كتابته، وما يستوجب التعديل ليتلاءم نص الكاتب مع الزمان والمكان المثقَلين بالأزمات، وهنا جوهر الجزء الثاني من معادلة العرض؛ ما الذي يبقى من النصوص المكتوبة للخشبة والشاشة، ولماذا تُسلب الكلمات والأفكار من أصحابها مُقابل عرضها وتحويلها إلى مواد بصرية تُقدّم للناس، وكأن النشر مدفوع الثمن، لجهة الأفكار على الأقل؟.
تستند «أكاديمية الضحك» إلى نصٍ للكاتب والمخرج الياباني كوكي ميتاني، ترجمه وأعده وأخرجه الدكتور الباش الذي يُحسب له مجدداً التعريف بكتّابٍ وكتاباتٍ من ثقافاتٍ وأرضياتٍ نجهل عنها الكثير، ومن ثم الاشتغال عليها وفق الحالة المحليّة، وإذا كانت شهرة ميتاني، تبعاً لما تقول وسائل الإعلام عنه، عائدة إلى الحوار، مكمن الكوميديا عنده، وطريقته في إيجاز العلاقات الإنسانيّة والأحداثٍ الفارقة، وما ينشأ عنهما من تفاعلات، فالباش حقيقةً حافظ على هذا الأساس، وأضفى عليه مزيداً مما تجود به عوالم النشر والكتابة والعرض محليّاً، ومن المفارقة أن يكون الكلام عن حقوق النشر وأحقية الكاتب في الحفاظ على نصه وآلية تعاطي الرقابة مع الشتائم والعنف وما شابه، ما زال مستمراً بعد موسم العرض الدرامي الأخير قبل شهرٍ تقريباً.
في العرض الذي قدمه الفنانان لجين إسماعيل وكرم حنون جهدٌ ظاهر في التعاطي مع المشاهد والحوارات المتلاحقة، والتي نضجت سريعاً، واتخذت أشكالاً مختلفة على أمل أن ينال الكاتب موافقة المراقب على نصه، حتى اضطر في النهاية لإشراكه في تجربة التمثيل، إضافة إلى سعيه مراراً لجعله صديقاً، لكن ما يظهر أن الشراكة لا تعني الصداقة أو لا تستلزمها، فخلال ساعتين كان بالإمكان اختصارهما، ظل المراقب رقيباً ينتفض لقراءة ما يُريبه، والكاتب الدراماتورج ظلّ لاهثاً خلف ضرورة العرض، ولو اضطره الأمر لإقحام أفكار خارجة عن روح العمل، وحذف أخرى والتحايل على غيرها، إلى أن يصبح النص ساذجاً غير قابل للفهم، والأهم أنه لم يعد يشبه النص الأصل في شيء.
في «أكاديمية الضحك» إعلاءٌ لشأن «سيادة المراقب» كما يدعوه الكاتب، وامتهانٌ له في الوقت ذاته، فهو لم يسمع بشكسبير، بل ويُفاجأ بأنه لم يعد على قيد الحياة، كما يطلب الحصول على موافقة ورثته قبل عرض نصه، ولا يتردد في رمي النصوص المقدّمة له في القمامة من دون نقاش مع أصحابها، لكنه رغم ذلك منع الكاتب من عرض مسرحيته، وأبقاها قيد الورق، ليضعنا العمل أمام أسئلةٍ تتوالى من تلقاء نفسها عن ضرورة وجدوى العرض والنشر، فهل ينتقص عدم العرض من قيمة النصوص أم إنها تكتسب قيمتها بالعرض، وتالياً لا بد من المرور بمحطة الرقيب ومقصه وإشاراته الحمراء؟، هل ما نضحك عليه مُضحكٌ حقاً، ما الكوميديا حقيقةً، ونحن الكائنات الوحيدة التي تضحك؟.