تراجع امتداد المناطق الريفية أمام زحف الصحراء
تشرين- د.رحيم هادي الشمخي:
من الحقائق الايكولوجية البيئية التي تثير اهتمام العالم، وقلق أعداد كبيرة من العلماء والكتّاب والمفكرين في السنوات الأخيرة، نظراً لتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية الخطيرة، ظاهرة تراجع المناطق الريفية في كل أنحاء العالم أمام زحف الصحراء من ناحية، وزحف التجمعات الحضرية من الناحية الأخرى، حيث شاع استخدام تعبير (الريف يحتضر) في الكتابات التي تعرض للصورة، أو الشكل الذي يحتمل أن يكون عليه مجتمع الغد بوجه عام، ومستقبل المناطق الريفية الشاسعة التي تتعرض لخطر الاندثار أمام زحف الصحارى في معظم دول العالم الثالث، وزحف المدن الجديدة في العالم المتقدم والعالم المتخلّف على السواء.
ويبدو أن المناطق الريفية في العالم الغربي، وكذلك المناطق الصحراوية الهادئة، والتي يمكن الوصول إليها بسهولة في العالم الثالث، أصبحت ذات بريق خاص في نظر الكثيرين، حيث تجذب إليها أعداداً متزايدة باستمرار للنزوح إليها، والإقامة فيها إقامة دائمة أو موسمية، ولكن الملاحظ أن هؤلاء النازحين يحملون معهم أساليب ومظاهر الحياة الحضرية، وبذلك قضوا على كثير من ملامح الحياة الريفية الأساسية الأصيلة، ما يعني في آخر الأمر أن هذا الزحف الثنائي يؤدي إلى قيام مناطق سكنية جديدة، لا تنتمي إلى أي من النمطين الريفي والحضري بشكل قاطع، وأن القصد منه لم يكن العودة إلى الطبيعة السمحة، والقيم التقليدية التي ارتبطت بالحياة الريفية طيلة القرون الماضية، وإنما هو الهروب قدر الإمكان من بعض أبعاد الحياة المميزة للمجتمعات الحضرية والصناعية القائمة على أساس الصراع والتنافس، وإثارة القلق أو الهروب من ظروف الحياة القاسية التي تحيط بالمناطق الريفية، وأوضاعها المتردية على مستوى العالم ككل، وفي دول العالم الثالث بشكل خاص.
ولقد كان هناك دائماً مساحات واسعة من الخلاف والتوتر بين النموذجين الريفي والحضري للإقامة والسكن وشكل الحياة، بل والقيم الاجتماعية والاقتصادية، وظهر ذلك واضحاً بشكل صارخ بعد الثورة الصناعية في الغرب المتقدم، وإن كانت هذه التوترات والاختلافات بدأت في حقيقة الأمر منذ بضعة آلاف من السنين، مع قيام الثورة الحضرية الأولى ونشأة المدن المبكرة، ويتسع نطاق هذا التوتر بازدياد التوجه إلى الحياة الحضرية وهجرة الريف وإقامة المدن، أو تجمعات حضرية لم يكن لها وجود من قبل، وإذا كان هناك من العلماء والباحثين الذين يهتمون بهذه التحركات السكانية من الريف إلى الحضر، ويتحدثون بالتالي عن ظاهرة ترييف الحضر، فإن المحصلة النهائية هي الابتعاد عن نمط الحياة الريفية التقليدي، بكل نظمها وأفكارها وسلوكياتها وعلاقاتها المتوارثة، والسؤال الذي يغزو أذهان الكثيرين من المهتمين بتتبع هذه التغيرات والتحولات هو: هل يمكن وضع حدود فاصلة بين المناطق الريفية والحضرية، وبخاصة حين يكون الزحف عشوائياً، ويتخذ شكل تجمعات حضرية صغيرة ومتناثرة، ولكنها تغطي في مجموعها في آخر الأمر مساحات واسعة جداً مما كان يعدّ قبل هذا الزحف مناطق ريفية بكل معنى الكلمة؟.
وأخيراً يرى العلماء في مجال المناخ (أن كوكب الأرض كله سيصبح هو مدينة المستقبل، أياً ما يكون المقصود هذه من العبارة).