عالمُ الرواية كان العالمَ البديل الكاملَ للواقع الذي يستنزف طاقتها بلا هوادة! حين تنعزل عن العالم تجد في الرواية المفتوحة على صفحة ما، حيث تُرك قلمُ الرصاص، منزلَها المرتّب الذي لا تعيث فيه الأيدي ولا تنشر فوضى الأثاث والألوان وتضييق أو توسيع الزوايا! تنعزل مع روايتها التي لم تكتمل وتنتقل إلى بلاد أخرى وشخوصٍ ذوي أسماء لا تحفل بتهجئتها بسبب طولها وغرابتها، بل تكتفي بحفظ رسم شكلها الهندسي يساعدها على الاستمرار في التعايش في جوّ، كان في البداية فوق خطّ الاستواء، متنقّلاً بين الشرق والغرب ثمّ انحدر إلى الجنوب حيث الأدب الأفريقيّ الذي لولا الترجمة لما كانت عرفت منه الروائع التي ازدادت تراكماً على رفوف المكتبة!
فقط، حين حلّت الحرب في الديار عادت إلى تلك الروايات التي كُتبت عن الحروب بكل اللغات، وتغيرت ردود أفعالها الشبيهة بمن تجيش مشاعرُه مع أحجيات «ألف ليلة وليلة» حيث تبدو الشرور الإنسانية حبكاتٍ يصنعها الزمن البطيء والبشر الذين يريدون إشعال نار للتسلية، لأن الحرب زعزعت كل شيء يخصُّها: البيت الواقعيَّ الذي عاشت فيه دهراً، والبيتَ البديلَ الذي كانت تهرب إليه كي يتوازن فيه «إنسانُها» واختلط عليها وجهُ ذلك المتطوّع الذي كان يحييها باحترام كلما مرّت بنقطة حراسته، بروايةٍ عنوانُها «قسمة إنسان»! امّحت تفاصيل الرواية التي مضى على قراءتها أكثرُ من أربعين عاماً وصارت تتظهّرُ فيها ملامحُ هذا المقاتل الواقعيّ الذي وجدت نفسَها قريبةً منه بحكم طول الحرب التي ظنّتها لن تدوم أكثرَ من شهر! كان يتحدّث أثناء استراحة بندقيته وأمامهما نار خشبٍ تذوي، مخلّفة رائحةً من صدأ مسامير ودهان متقشّر، عن ماضٍ عرف دائماً أنه لن يدوم لأن الحياة تتقلّب وقد ذاق الكثير من تقلُّباتها خلال أعوامه التي تجاوزت الستة والستين، وكان سلاحه مخبوءاً لمثل هذا اليوم، ولن يتناسى خبراته التي اكتسبها في الحروب ضد العدو حين كان بإمرة ضابطٍ صارم، ولم يجد غضاضة، وهو المدنيّ، أن يضع نفسه تحت إمرة شابٍ يتعامل معه كالأب ما دام الواجب يفرض عليه أن يصدّ التكفيريين، ولم يكن يخجل من وجبة الطعام المتواضعة التي تُترك له بل يفتح «الصّرّة» ويدعوها إليها بسخاء ثم يؤجج النار ليريها كيف يمكن تحضير الشاي تحت أي سماء، صافيةً وممطرة، إذ لم يعد لديه بيتٌ يظلُّه وصار سكنُه في مداخل البنايات التي هُجّر أصحابها، وتحت أي سقفٍ مرتجَل، وكان أن هُجّرَت هي أيضاً، في ليلةٍ ليلاء، لكنها لم تغب عنه باتصالاتها الهاتفية لأنه خير وأصدق مراسلٍ حربيّ، حتى إذ عادت إلى الحيّ أقبلت عليه متجاهلةً النحول الذي اعترى بدنَه والمرض الذي حلّ به والسّواد الذي علا بشَرَتَه بسبب دخان الحطب الذي كان يجمعه حيثما وجد شجرة قتلتها الحرب بالقذائف ووقفِ السقاية! ويوم أخبرها أحدُ أصدقائه بهاتف سريع أنه توفي، تداعى أمامها العالم الآمن الذي قاتل من أجله، وأحزنها حتى انفطار القلب أنه أُخذ إلى مدفن في إحدى الضواحي من دون رفاق ومن دون مشيعين، حتى هي لم تودعه بما يليق به مقاتلاً على عتبة بيتها، لأنه مضى دون أن يُسمع صوته لأحد، وترك وراءه جُحراً للسكن ليس فيه إلا بعضُ متاع!
لو أن روائياً أمسك بعض تفاصيل حياة هذا الإنسان، تُرى أيَّ رواية ستُكتب؟ وضمن أيّ نوعٍ سرديٍّ ستُصَنّف؟ وكيف تكون «قسمة الإنسان» على هذه الأرض بحكاياتها التي لا تنتهي؟
نهلة سوسو
123 المشاركات
قد يعجبك ايضا