السكك الحديدية.. حلول سريعة لأزمات متفاقمة لدمج المدن اقتصادياً وتنظيم هيكل السوق

تشرين:
فكرة! تستحق التصفيق والإعجاب والمشاركة وكل أسباب الدعم، ولاسيما أنها اتخذت قبل وقت ليس بالبعيد شكل قرار من خلال تكليف وزارة النقل بتأهيل كل خطوط السكك الحديدية في المحافظات نظراً لجدواها الاقتصادية في نقل حوامل الطاقة والقمح بشكل رئيس، إضافة إلى إحداث خط حديدي جديد يصل بين منطقتي حسياء وقطينة في محافظة حمص لنقل مواد البناء من حسياء إلى محطة القطارات الرئيسة ومنها إلى المحافظات.
ومن أسباب الحماس لهذا الإجراء هو ما تعنيه شبكة السكك الحديدية في إعادة الربط بين المدن والمحافظات والعاصمة لكونها تشبه الشرايين التي تنطلق من قلب العاصمة دمشق باتجاه كل المحافظات السورية حاملة معها ليس فقط البضائع وعربات الشحن وإنما أيضاً سهولة الاتصال والوصول والربط بين كل أنحاء الدولة، ما يفيد في تسهيل حركة البضائع والأفراد ويوفر الوقت والجهد والتكلفة، وتالياً يعزز التفاعل الاقتصادي ويحسن في مستوى الخدمات المقدمة للمواطن من خلال إعطاء المسافر بين المدن السورية خياراً جديداً قد يكون أقل تكلفةً وأكثر أمناً مع مراعاة الجوانب البيئية.
قيمة اقتصادية مهمة
أضف أن استخدام السكك الحديدية يرتبط مع الذاكرة السورية بمحطات فرح ونزهات وتجوال، ما يعني أن إنشاء خطوط القطارات سيساعد في تنشيط السياحة من جهة ويعمل على إحياء المناطق التي يمر فيها خط سير القطار والمحطات التي يتوقف فيها من جهة أخرى، وهذا وحده يحقق قيمة اقتصادية مهمة ويسهم عملياً في إحداث تنمية اقتصادية وسياحية وتجارية تستفيد منها شرائح واسعة من الباحثين عن فرص عمل. وثمة فوائد اقتصادية مباشرة يقدمها المشروع كاختصار أوقات السفر لأصحاب المشاريع والتوفير في تكاليف شحن البضائع وتحقيق خدمات جديدة للمسافرين.
أضف إلى ذلك دعم المزارعين والصناعيين والتجار، إذ يمكن أن نتخيل عربات الشحن تحمل المنتجات الزراعية بيسر وسهولة وبمواصفات تخزين تضمن سلامة المنتج وبالتالي نقلة نوعية بالصادرات الزراعية، وإذا أمعنا بالتفاؤل سنجد فوائد هذه السكك تطول قطاع الصناعة من حيث سهولة شحن الآلات الصناعية ومستلزمات الإنتاج والبضائع المنتجة وسهولة تنقلها بين المحافظات وهذا وحده كفيل بزيادة الاستثمارات داخل الدولة، وأخيراً وليس آخراً زيادة خدمات عمليات التوظيف وزيادة دخل الشركات التي في إمكانها فتح فروع جديدة لسهولة النقل والتنقل ويمكن حتى تنفيذ مشاريع سكنية جديدة والاستفادة من المدن الجديدة في توسيع المخططات العمرانية، ما سيلهب حماس الشركات العقارية والعمال على حدّ سواء. وهذا في مجمله يشكل إسهاماً ملحوظاً في إعادة تشكيل الأسواق وزيادة كفاءة الإنتاج وتوفير أيدٍ عاملة. والشكر والنصر لأبطالنا في الجيش العربي السوري الذين يواصلون تطهير الأراضي السورية ويزرعون أعلام النصر في كل مكان.

تجربة الصين
وعلى الصعيد العالمي يمكن الاستفادة من تجربة الصين في بناء سكك حديدية سريعة فمنذ 2008 وحتى الآن قامت الصين بتشغيل أكثر من 40 ألف كيلومتر من خطوط السكك الحديدية عالية السرعة.
ولمعرفة مدى ضخامة هذا الرقم يكفي أن نقول إنه أكبر بكثير من إجمالي خطوط السكك الحديدية عالية السرعة العاملة في بقية دول الكرة الأرضية جميعاً، ولمعرفة إلى أي مدى يمثل ذلك إنجازاً كبيراً، يكفي القول إن الصين وفي بداية هذا القرن لم يكن لديها أي خطوط سكك حديدية عالية السرعة على الإطلاق، إذ كانت جميع القطارات بطيئة غير مريحة بمتوسط سرعة منخفض.
أما اليوم ولم ينقضِ ربع هذا القرن بعد، فإن الدولة الأكثر اكتظاظاً بالسكان لديها الآن أكبر شبكة للسكك الحديدية عالية السرعة في العالم، بل تخطط لمضاعفة طول شبكتها من هذا النوع من القطارات الحديثة لتبلغ 70 ألف كيلومتر بحلول عام 2035.
من المؤكد أن تلك الشبكة من خطوط السكك الحديدية عالية السرعة تتجاوز أهميتها نقل المواطنين بين المدن الصينية، رغم أهمية هذا العامل في اتخاذ قرار الاستثمار في هذا القطاع تحديداً، فالآثار تتجاوز ذلك بكثير، وتمتد لتشمل تعزيز التنمية الحضرية في المدن، واستيعاب الزيادات المتسارعة في أعداد السائحين، وتعزيز النمو الاقتصادي الإقليمي، بل مكافحة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري أيضاً.

خدمات وأسعار تنافسية

في بلد شاسع المساحة كالصين تنافس خدمة السكك الحديدية عالية السرعة كلاً من النقل البري والجوي خاصة في المسافات الطويلة، وربما يعزز انخفاض تكلفة تشييد السكك الحديدية في الصين مقارنة بالدول الأخرى التوجهات الحكومية لتوسيع شبكة القطارات الحديثة في البلاد، إذ إن تكلفة الكيلومتر الواحد تراوح ما بين 17 – 21 مليون دولار، أي نحو ثلثي التكلفة في الدول الأخرى.
ولزيادة الإقبال الجماهيري على استخدام السكك الحديدية، فإن أسعار تذاكر السفر بالقطار في الصين تعد تنافسية مع الحافلات وشركات الطيران، كما أنها تمثل ربع نظيرتها في الدول الأخرى، وقد أدى انخفاض أسعار تذاكر السفر بالقطار إلى أن يجذب أكثر من 1.7 مليار مسافر سنوياً من جميع فئات الدخل.
إنّ التوجهات الصينية في مجال التوسع في شبكة السكك الحديدية عالية السرعة تعود إلى مجموعة من الأسباب من أبرزها معدل العائد الاستثماري في شبكة القطارات الصينية الذي بلغ ابتداءً من 2015 نحو 8 في المئة.
استثمارات طويلة الأجل
ووفقاً لدراسات البنك الدولي هو أعلى بكثير من تكلفة الفرصة البديلة لرأس المال في الصين ومعظم الدول الأخرى للاستثمارات الرئيسة طويلة الأجل في البنية التحتية، كما أن شبكة القطارات الحديثة لن تقف مزاياها عند تقصير أوقات السفر وتحسين السلامة وتسهيل تنقل العمالة والسياحة، وإنما أيضاً القطارات عالية السرعة تعمل على تقليل تكاليف التشغيل في الإنتاج الاقتصادي وتقلص معدلات الحوادث وتخفض ازدحام الطرق السريعة وانبعاثات غازات الاحتباس الحراري”.
وفي الواقع فإنّ شبكة السكك الحديدية الصينية تعد كقطارات شينكانسن اليابانية في الستينيات رمزاً للقوة الاقتصادية للبلاد وللتحديث السريع والبراعة التكنولوجية والازدهار المتزايد ووسيلة للاندماج الثقافي والاجتماعي، والأهم دمج السوق الوطنية الواسعة بما يخدم السياسة التنموية للبلاد والقائمة على التحول من النمو القائم على التصدير إلى النمو القائم على الاستهلاك الداخلي.

تعزز الإنتاجية والنمو الاقتصادي
ومن البدهيات الأساسية في علم الاقتصاد أن تطوير وسائل النقل يعزز من الإنتاجية الاقتصادية والنمو الاقتصادي، وبالفعل فقد جلبت القطارات عالية السرعة تأثيرات إيجابية في هيكل السوق في الصين، وأثرت بشكل مفيد في التجمعات العمالية وعززت من الابتكارات التكنولوجية في المدن والبلدات التي تمر فيها القطارات، ما أحدث من وجهة نظر كثير من الخبراء تغيراً جذرياً في الاقتصاد الإقليمي للصين وفي الإنتاجية وأنماط الحياة، وذلك كنتيجة طبيعية لتحسين الاتصال بين المناطق بشكل كبير وتعزيز الارتباط الاقتصادي بين الأسواق المحلية المختلفة.
شبكة القطارات الحديثة في الصين أدت إلى تقصير وقت السفر وتحسين كفاءة السفر، وزيادة التواصل الاقتصادي بين العاملين في المدن المختلفة بما يحسن من التكامل التجاري الإقليمي ويحسن مستوى الدخل القومي، بل إن بعض الخبراء يشيرون إلى أن الانتعاش الذي شهدته الصين في سوق العقارات الذي يسهم بنحو 25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي يعود في جزء كبير منه إلى التوسع في شبكة السكك الحديدية التي سمحت بالإقامة في مدن بعيدة نسبياً عن أماكن العمل مع توفر قطارات قادرة على نقل المواطنين خلال فترات زمنية مقبولة بشكل كبير.
خفض تكاليف الانتاج
في هذا السياق، فانّ توسع الصين في شبكة السكك الحديدية منذ بداية القرن الحالي أدى إلى زيادة في أسعار أراضي المدن التي تمر فيها القطارات بنسبة 7 في المئة مقارنة بالمدن التي لا يمر فيها القطار، وتشير بعض الدراسات إلى أنه في المرحلة المقبلة ستؤدي كل محطة سكة حديد عالية السرعة إضافية إلى زيادة أسعار الأراضي في المدن بمقدار 13 في المئة، كما زادت أسعار العقارات في المدن التي يوجد فيها قطارات عالية السرعة بما لا يقل عن 14 في المئة”.
لكن التأثير العام للقطارات الحديثة في الاقتصاد الصيني أكبر من ذلك، إذ تعيد على الأمد الطويل تنظيم الهيكل الاقتصادي الصيني وفقاً لقوانين العرض والطلب من خلال إتاحة فرصة أكبر لقوى الإنتاج سواء الأيدي العاملة أو المواد الخام إلى الانتقال من مكان إلى آخر بطريقة أسهل وأسرع وأقل تكلفة، وهذا يؤدي إلى خفض تكاليف الإنتاج وتقليص حجم الفاقد”.

لكن الاعتقاد أن التنمية الاقتصادية مرهونة فقط بشبكة جيدة وحديثة من السكك الحديدية سيكون مبالغاً فيه، إذ يمكن أن يؤدي التركيز فقط على التوسع المستمر في شبكة السكك الحديدية إلى مزيد من الاستقطاب الاقتصادي لمصلحة المدن التي تمر فيها القطارات وفي الأغلب ستكون مدناً مركزية على حساب المدن الطرفية التي لا تمر فيها قطارات”.

تكنولوجيا السك الحديدية
مع هذا يعتقد بعض الخبراء أن فلسفة الصين في توسيع شبكتها من السكك الحديدية المتطورة، والعمل الدؤوب على تطوير صناعة وتكنولوجيا السكك الحديدية لديها، لتصبح مركزاً عالمياً لتلك الصناعة لا يرتبط فقط بالسوق الوطني، وإنما الأهم ربط الاقتصادات المجاورة، بل الاقتصاد الأوروبي إذا أمكن باقتصادها.
ومع ازدهار شبكة السكك الحديدية الصينية، تتجه كثير من الدول المجاورة إلى التخلي عن الشاحنات كوسيلة لنقل السلع بين البلدين لمصلحة السكك الحديدية التي باتت أسرع و أكبر، إذ افتتحت منغوليا في تشرين الثاني الماضي خطاً جديداً للسكك الحديدية إلى الصين، الذي سيعزز العلاقات الاقتصادية بين البلدين، حيث إن 90 في المئة من صادرات منغوليا تأتي من الصين، وقد تم تهديد شريان الحياة هذا نتيجة سياسة الصين المتشددة في مواجهة فيروس كورونا،
ونتج عن ذلك انخفاض عدد الشاحنات التي تنقل السلع بين البلدين خشية الصين من أن ينقل السائقون الفيروس.
أما لاوس، فقد افتتحت في 2021 خط سكك حديد بنته الصين بقيمة ستة مليارات دولار يمتد من قرب الحدود المشتركة للبلدين إلى العاصمة، وذلك في إطار مبادرة الحزام والطريق الصينية، وسيسهم هذا المشروع في خفض تكاليف الشحن وتعزيز الصادرات بين البلدين، كما أن باكستان اعتمدت على الصين لبناء خط سكك حديدية يربط مدينة كراتشي الساحلية بكل من العاصمة إسلام أباد ولاهور.
واهتمام الصين ببناء شبكة داخلية ضخمة ومتطورة من السكك الحديدية، أمر يتجاوز الشأن الداخلي إذ يجعلها مركزاً عالمياً لتلك الصناعة، وحالياً تتوق أي دولة لتطوير بنيتها التحتية من السكك الحديدية للاستفادة من الخبرات الصينية في هذا المجال، إذ إنها قادرة على بناء سكك حديدية عالية السرعة بتكلفة أقل من منافسيها، ويمكنها ذلك من اكتساب مزيد من الأصدقاء وفتح الأسواق في عديد من الدول.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار