الشاعرة لُجينة نبهان والقصيدة التي تمشي على خدِّ الماء
راوية زاهر:
في رصيدها اليوم ما يُقارب من نصف “دستةٍ” من المجموعات الشعرية، منها :
“لستُ سوى بعضي، ليس كلّ هذا الحريق، حرائق خضراء، والحرب خدعة بصرية..” فقد أخلصت لجينة نبهان كلَّ شغفها لوجه القصيدة دون غيرها من أنواع الإبداع الأخرى، ومن هنا كان هذا الثراء والتنويع في النتاج الشعري، الذي سنختار منه نصاً واحداً بالقراءة والتحليل عسى أن يُعطي الجزءُ الملامح العامة للقول الشعري عند الشاعرة لجينة نبهان التي اتخذت اليوم مكانها اللائق في ديوان الشعر السوري..
النص:
“الضلع الناقص من ضلوعك؛
ليس سوى فكرة
تمكنتْ منكَ في لحظةٍ باهظةِ الذكورة!
فحين تكبرُ أنثى؛
ستمشي على جسدِ المستحيل بكاملِ حلمك،
كما نبيٍّ
مشى يوماً على
خدِّ ماء..”
القراءة:
النص ينتمي إلى فن الومضة.. كلام بتفصيلاته الدقيقة ترك انطباعاً مباشراً بقدرته على المباغتة بشلالٍ من الصور الثّرة الجديدة والمعبرة.. إذ ابتدعت الكاتبة مفردات طازجة في تراكيبها، وقد اختزنت طاقة بدائية انفعالية أوصلت المعاني إلى خواتيم مدهشة تثير عقل المتلقي وتدغدغ عواطفه بكلِّ انسيابية.. وأول ما تميزت به هذه الومضة هي التّفرد والخصوصية، ووحدة عضوية متكاملة مع إيحاءٍ فريد، واقتصادٍ لغوي مُبرمج، متخم بالمعاني والرموز.
استخدمت الشاعرة في ومضتها المنهج الوصفي التحليلي مركزةً على فكرة شعرية في إطارها البنيوي، وكان الإيماضُ بارزاً بقصد الإدهاش الذي تميزت به، فكان الحدث على شكل مشهدٍ درامي سينمائي بلقطات وميضية مدهشة، وقد عبّرت عنها من خلال موقفٍ أو إحساسٍ شعري مرّ في الذهن وصاغته بألفاظٍ قليلة ومعاني مكثفة.
عن التقنيات
استخدمت الشاعرة الرمز والإيحاءات بصورةٍ لافتة متنقلةً بين حقائق ميثولوجية ونفسية، ومعتقدات بائدة أرادت أن تضعها في نصابها رغم مرور أرداحٍ من الزمن على تبنيها ضاربةً بعرض الحائط مصادرها ومنفذيها في عالم من اللاعقلانية والتقاليد المهترئة.. (الضلع الناقص من ضلوعك) تأخذنا إلى أماكن أخرى تماماً، وهنا تذكرنا بمقولة “حواء التي خلقت من ضلع آدم”، ولكن الشاعرة ربما لم ترد هذا المعنى، بقدر ما أرادت معنى آخر، وهو أن المرأة ضلعٌ مكسور.. أو أن الرجل وصيٌّ عليها، إذ فندتها بأن هذه الحالة عند الرجل هي فكرة ممسوخة استحوذت على عقليته الذكوربة في لحظة فحولةٍ عارمة، وأمضى حياته قابضاً على هذه الجمرة التي تعطيه حق تجبير هذا الضلع المكسور أو زيادة تهشيمه حد التلاشي، لتستعرض الحالة “الثورجية” التي يمكن أن تعيد لهذه الأنثى حقوقها النفسية المسلوبة، فتعيد مخاطبة الرجل بحرفية الخطاب لترسخ عظمة هذا المخلوق، وهنا الكبر ربما لم يكن بمعنى زيادة عدد سني العمر، وإنما زيادة سنوات الوجع والتهميش، والقوة التي اكتسبتها أو أكسبتها إياها معركة الشاعرة – المرأة المفتوحة التي ستجعل من الرجل يُراجع كل خطط فحولته في لحظات استعباد هذا المخلوق لتصير عصية على أفكاره وموروثاته، فهي في لحظة قوتها ستصيرُ ذاك المستحيل العصي على حلم كلّ مستبد لتعيد الشاعرة الدوز الموسيقي للنص بتشبيهٍ باهر الدلالة مُفعم بالرمز والإيحاء والقوة التعبيرية، فكان تشبيه صورة يوتوبيا المرأة العصية في حلمٍ ذكوري مريع.. بصورة مستوحاة من قصص وصلتنا عن أنبياء امتلكوا قدراتٍ خارقة بالمشي على سطح الماء، فهذا بنظر الكاتبة ضرب ما ورائي وفيه إعجاز، ومع ذلك ربطت حلم الرجل بعد ثورة المرأة بتلك المعجزة. فالصورة فيها تشبيه تمثيلي بليغ الدلالة، ومن أهم فوائده كانت إعمال العقل بالمتناقصات، وإظهار جمال التصوير أضف إلى صدق الأحاسيس والمشاعر.
عن اللغة
تجاوزت اللغة في هذا النص إطارها المعجمي لتكتسي دلالات إيحائية ورمزية قدمتها الشاعرة على شكل وميضٍ إبراقي مدهش، وقد ارتقت الكاتبة باللغة مشكلةً كلمات يرتفع مستواها الدلالي، ومن المعروف أنه حين يتمكن المتلقي من القبض على جوهر النص تحدث لديه المتعة الفنية. كذلك استخدمت لغة سعت من خلالها إلى إحداث تآلف في بنية التركيب اللغوي مع مستوى العلاقات الدلالية والإشعارات الملفوظة التي أومضت ببهاء من داخل النص، وقد أحدثت تجانساً متداخلاً في علاقة الكلمات بأفعالها وسماتها وحروفها وتوابعها ولواصقها على اعتبار ذلك ظاهرة تسعى إلى إثارة المتلقي في زاوية التأزم والانفراج بقصد الإدهاش والمفارقة.
والسمة الإيحائية القائمة على التكثيف للنص مكنت الكاتبة من تحميل نصها معاني تعجز عنها صفحات بأسلوبٍ رشيق ومبدع رافعة معاناتها بأسلوبٍ درامي جذاب وبطريقة فنية لافتة. واجتمعت العتبة النصية والخاتمة والمفارقة معاً كبنية دلالية متكاملة مع ثنائيات ضدية خفية رابطة العتبة النصية برؤيا الشاعر.
النص باذخ بالصور الغنية فائضة الدلالة، إذ بدا لنا أحياناً التنافر بين عناصرها تاركة أثراً فنياً مدهشاً، فالتضاد يولد الحيوية، ويُجسد التعارض بين القوة البشرية والواقع؛ ليظهر نقائض الذات في جدلها وليعبّر عن توتره النفسي الحاد.
استخدمت الكاتبة أسلوب الخبر الذي يتيح لها عرض رؤيتها بسلاسة، والإخبار عنها بكلِّ انسيابية.. كما نوعت في استخدامها للفعلين الماضي والمضارع بصيغة الاستقبال (ستمشي، حين تكبر) لتؤكد على رغبة المرأة المستمرة، والتي ستبقى هاجساَ حتى للمستقبل في التحرر من عبودية الرجل وضلوعه المهشمة. أما الماضي (تمكنت، مشى..) فهو للدلالة على أحداث أتمت دورة حدوثها وانتهت.
لمحة أخيرة
برعت الكاتبة في استحضار صور بالغة الدقة تميل في جلها إلى خيال ما. وقد ربطت المعاني الحسية بالنفسية إلى حدٍّ بعيد، أما المشاعر العاطفية؛ فتنوعت بين سخط وعنفوان وحزن وأمل.. وتحدّ.. وأدوات التعبير عنها تراكيب مثل (باهظة الذكورة).. التحدي.. أيضاً من أدوات التعبير منها تراكيب مثل: (ستمشي على جسد المستحيل بكامل حلمك.)، وقد استخدمت الكاتبة التناص بصورة عفوية وبارعة؛ فكان التناص إيحاءً غنياً أفاد الاختزال والتكثيف، وفي الآن ذاته أفاد الإحالة إلى نصوص مليئة بالمعلومات تعيد بناء الفراغات الحيوية في مثل هذه النصوص.. فاستخدمت الكاتبة الاستعارة لتزيد من بهاء الصور وخاصة المكنية منها (خدّ ماء، جسد المستحيل)، فالخد والجسد من سمات الإنسان أطلقتها الكاتبة على الأشياء المعنوية تارة والحسية تارة أخرى.