«أزمة هوية الاقتصاد السوري» على طاولة الثلاثاء الاقتصادي.. سيروب: عدم تحديد هوية الاقتصاد الحالي أدى إلى حالة التخبط في القرارات
تشرين- بارعة جمعة:
علمٌ يعتمد على الأرقام والدراسات الإحصائية المنسجمة بشكل مباشر مع السياسات والقرارات، يدفع بعجلة الإنتاج إلى الأمام بما يحقق التوازن والانسجام بين أطراف العملية الإنتاجية كافة، إلّا أن الخلل في مرحلة من دون أخرى سيؤدي حتماً للاختلال فيما بعد، كما هو حال اقتصادنا الحالي، الذي أخذ سمة الحرب بصفتها المحرك والموجه له خلال السنوات العشر الماضية، فمثلاً عناوين عريضةً كانت محط جدل ونقاش لمقاربات ورؤى ندوة الثلاثاء الاقتصادي، ضمن محاضرة الدكتورة رشا سيروب عضو مجلس إدارة جمعية العلوم الاقتصادية السورية في مركز ثقافي أبو رمانة.
إشكالية اقتصادية
يمثل الإنتاج المحلي إحدى دعامات الاقتصاد السوري، فيما لو تم بشروطه وأركانه الصحيحة، جزئية كانت من أكثر النقاط جدلاً، قدمت من خلالها الدكتورة سيروب العديد من الزوايا، شارحةً إشكاليات عدة تمثلت بتساؤلات كثيرة عن مكونات هذا الاقتصاد والمنفعة المرجوة منه للاستفادة منها ومن التجارب السابقة، واصفةً إياه بالسهل الممتنع، الذي لم يخلُ من ثغراتٍ كثيرة، بدأت بالظهور بعد عام 2012، حيث أصبح للاقتصاد صبغة استهلاكية، في وقت لم يكن ذا صبغة اشتراكية أيضاً، بل أقرب للرأسمالية بصفته سوقاً اجتماعياً، متسائلة في الوقت ذاته: ما الهوية التي من الواجب إسقاطها على اقتصاد اليوم؟!
فوجهة النظر الرسمية ستحقق العدالة الاجتماعية لا محالة، والتي باتت واضحة وجلية في الطرح الذي قدم في مضامين سورية ما بعد الحرب، مؤكدة أمام هذا الطرح بأن ما ينطبق على هذا الاقتصاد لا يمكن حصره بصفة الاشتراكية أو الرأسمالية، إنما نتاج خليطين منهما بات معروفاً بقوة في الاقتصاد الروسي.
وفي النظر لطبيعة النظام الاقتصادي، لا بدّ لنا من البحث عن إجابات للكثير من الأسئلة التي تحدد ماهيته، بدءاً من: ماذا ننتج، ومروراً بـكيف، وانتهاء بالغاية من هذا المنتج في حدّ ذاته؟ برأي سيروب، فإن اعتمدنا مبدأ تلبية الاحتياجات فالوجهة هي اشتراكية، وان اتخذنا من الربح مبدأً سنكون رأسماليين بامتياز، إلّا أن ما يحكم اقتصادنا اليوم برأي سيروب هو السوق وحده، الذي يعدّ مؤشراً لقياس العرض والطلب، وفي حال فشل السوق بتوفير الهدف منه سيكون التدخل الحكومي هو الحل الأمثل، فلا يوجد نظام اقتصادي لا تتدخل به الحكومات بهدف تصويب الانحرافات على حدّ تعبيرها.
وجهات نظر
وفي خضم هذا الجدل الكبير، يطلق البعض لقب الاشتراكي على الاقتصاد انطلاقاً من نص الدستور الذي عزز مفهوم الاستهلاكية فيما بعد، إلّا أن النشاطات الاقتصادية أظهرت عكس ذلك تماماً، من هنا تباينت الآراء والوجهات برأي سيروب، والتي حتمت لدى فئة معينة الإلمام بالسياسات الاقتصادية للنهوض بالمستقبل، ليبقى لدى البعض الآخر وجهة نظر حكومية في إصدار سياسات تعتمد مؤشرات عامة، متسائلة عن إمكانية الاكتفاء بالقول إن السياسات الاقتصادية كفيلة بتحديد الهوية الاقتصادية أم لا؟!
لنجد في نهاية المطاف أنه لا توجد دولة تطبق نظاماً صرفاً، بل طغت سمة المختلط على نشاطها الاقتصادي لتلبية أهداف النوعين في الربح وتأمين الاحتياجات.
غياب المنافسة
وأمام ما تفرضه قواعد الاستثمار والإنتاج، وتنوعها بين قطاعين هما الخاص والعام، لا بدّ لنا من الإشارة إلى انعدام التنافسية بين هذين القطاعين حسب توصيف سيروب، كما أن دستور عام 2012 لم يعطِ صبغة محددة للاقتصاد، إلّا أن بعض مواده أكدت بأنه ليبرالي ويتجه لاقتصاد السوق.
في حين مثل الاتجاه الاقتصادي لإلغاء الادخار باعتباره واجباً وطنياً، والذي أخذ بعدها قيماً سلبيةً، تمثلت بتدني نسبة الإنفاق الحكومي في سورية قياساً بالكثير من الدول المتجهة نحو زيادته، حيث قدرت نسبة هذا الإنفاق وفق إحصائية لمجموعة دول مختارة ومتباينة في عام 2020 14.8% في وقت سجلت فيه فرنسا أعلى نسبة في الإنفاق الحكومي الاستثماري بلغت 56.4%، والذي بدوره أوضح استنزاف المجتمع لمدخراته، وإثباتاً مرفقاً بالأرقام على أن التوجه الحالي هو استهلاكي برأي سيروب، كما أدى إلغاء الإيرادات الضريبية لفقدان الخزينة العامة أموالاً، وبالتالي تراجع الخدمات المقدمة من قبلها عدا عن انخفاض جودتها، لتسجل نسبة العبء الضريبي في الإحصائية ذاتها من العام نفسه نسبة 4.8% في سورية و46.2% في فرنسا مسجلة أعلى نسبة أيضاً، وهنا تبرز لدينا العلاقة المتبادلة بين الإنفاق والضرائب، والذي كان واضحاً عجز القطاع العام عن تأمين خدمات بجودة عالية، وبالتالي اللجوء لسياسات وإجراءات حكومية تمثلت برفع الدعم عن الكثير.
كما أن لصعوبة تحديد هوية الاقتصاد الحالي دوره الأكبر في حالة التخبط التي يعيشها القرار الحكومي اليوم برأي سيروب، بينما تشكل المعرفة الكاملة بما نمتلكه من موارد طبيعية وبشرية متاحة وأماكن توزعها، السبيل للخروج من هذه المتاهات، كما يحتم علينا الموقف الانطلاق من الواقع لا الطموحات، واعتماد المنطقية في ظل واقع متغير، ليبقى المنفذ الوحيد للجميع التركيز على دعم المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر، في ظل اعتماد التدخل الحكومي من مبدأ الإشراف والتوجيه لا الإلزام برأي سيروب، لكوننا الأحوج اليوم لهوية اقتصادية رأسمالية موجهة من الدولة نفسها.