«ملف الأسبوع».. المرأة الريفية..حلقة مفقودة في زمن الفقر والحاجة ..تمدّن أجوف لمطارح الرزق الحلال
تشرين:
التمدّن الأجوف.. مصطلح لا ينطوي على أي معاني افتراء وظلم لأريافنا، التي جنحت نحو السلوك الاستهلاكي خلال سنوات الرخاء، وقفزات النمو المديدة خلال سنوات ما بعد العام 2005 ولغاية العام 2010، بل وامتد الاسترخاء بعدها مع دخولنا في الأزمة التي أنتجها الاستهداف المباشر لسورية، فالعادات الاستهلاكية لا تتغيّر عادة بقرار، وتحتاج إلى الإيفاء بشرط الزمن كي تتحقق أي انعطافة مطلوبة.
الجنوح نحو الاستهلاك حيّد المرأة الريفيّة عن الفعل الاقتصادي الحقيقي، لسبب بسيط وهو أن الحاجة لخدمات الريفيات لم تعد ماسة إلّا من باب الرفاهية واستحضار الذاكرة الاستهلاكية القديمة من باب التوق إلى “التراث الغذائي” ليس إلّا .. وتكفّل توالي السنوات بإخراج المرأة الفاعلة كحلقة أساسية في الأرياف من الفعل التنموي الحقيقي، لنصل اليوم مع الضرورات التي فرضها الظرف الصعب، إلى إحساس عميق بالحاجة السريعة إلى استرداد حضور المرأة الريفية في مضمار الإنتاج الزراعي، فهي مهماز العمل في الأرياف، هي من تحفز وتخطط للإنتاج بشقيه النباتي والحيواني، هي من تتولى تربية الأبقار والأغنام والماعز حسب خصوصية كل منطقة، وهي من تتولى مهام توضيب (المونة) – وكم بات هذا العمل مهماً و أساسياً – المرأة الريفية عنوان حالة القطع التنموي الذي ابتلينا به نحن السوريين على خلفية سنوات الرخاء والاسترخاء.
تراجع تنموي
فمع تنحي المرأة الريفية عن دورها.. تحوّل الميزان التجاري للأسر الريفية إلى عاجز بامتياز في السنوات الأخيرة بعد أن تحول معظم هذه الأسر إلى مستورد دائم من دون أن تحتفظ بدورها التصديري “الصغير” إلى المدن الكبيرة في تراجع اقتصادي واضح .
والمراقب لحركة سيارات نقل البضائع بين الريف والمدن السورية يلحظ بوضوح هذا العجز الذي يمكن أن نقيسه على الميزان التجاري الأشمل، هذه السيارات كانت تذهب في الماضي محملة بالألبان والأجبان والخضراوات بأنواعها متجهة إلى أسواق الهال وأسواق البيع الأخرى لبيع حمولتها والعودة بسلع يعجز الريف عن تصنيعها، والآن تبدلت حمولاتها وأصبحت توافي الريف بالخضراوات والألبان والأجبان والمنتجات الغذائية الجاهزة بعملية عكسية لسبب وحيد يمكن تلخيصه بأن الريف تحول من منتج إلى مستهلك بامتياز، ومن مصدّر إلى مستورد لسلع كانت تكفيه ذاتياً، وبأن ثقافة الاستهلاك سيطرت على عقول هؤلاء في ظاهرة يمكن أن نصفها بتمدن الريف.
بالفعل ثمة تغير نمطي لافت أصاب أسلوب العيش وبدَّل مفاهيم ووظائف أماكن أخذت صبغتها تاريخياً ووظيفياً، تبدل خلاله البيت الريفي من مؤسسة اقتصادية مكتفية ذاتياً ومصدر لمختلف المواد الغذائية إلى مستهلكٍ ومستجرٍّ للسلع ما جعل أفراد هذه المؤسسة ينزعون للكسل والراحة المفرطة والاتكال وتسليم أنفسهم للفراغ مكتفين بما تدره الوظيفة أياً كانت أو العمل بالخدمات بدل الزراعة التي أصبح من يعمل فيها يصنف في آخر السلم الاجتماعي حتى في العرف الريفي، ومن يعمل بأرضه وينتج منها ولو كان لديه دخل آخر يشار إليه على أنه جشع ويريد البيضة والتقشيرة نظراً لنمو رأس ماله /حسابياً / لما يوفره عليه العمل بالأرض .
البعد القاتم لـ ” التمدّن”
ومن جهة أخرى تحولت الأرياف إلى مناطق اصطياف ومنشآت وأماكن استجمام وتحولت أغلب أراضيها إلى مقاهٍ ومقاصف وزحفت الكتل الإسمنتية لتستوطن على الأراضي الزراعية بعد انتشار مظاهر العمارة الضخمة على الرقع الزراعية، وتفضيل قطع الأشجار وتصحير الأراضي عمداً لتوسيع رقع العمارات بفضل السباق بالتباهي بحجم هذه العمارات ومرفقاتها من ديكورات وحدائق امتلأت بالورود والأشجار الغريبة عن بيئاتنا، حتى بتنا نرى الآن محاضر مدنية الطابع متوضعة في القرى التي أثارت شهية المستثمرين العقاريين لتحقيق ربح زائد مستغلين انخفاض أسعار الأراضي فيها وإغراء المزارع الذي اختلت علاقته بأرضه بأثمان مرتفعة قليلاً.
قد غاب عنّا أنّ العمل التنموي عمل متكامل إذا حصل خلل أو قصور في أي مجال فيه انعكس على مجمل مخرجات العملية التنموية، سواء على المستوى المكاني أي بين المحافظات أو ضمن المحافظة الواحدة بين المناطق أو بين الريف والمدينة أو حتى على المستوى القطاعي وهذا ما يسبب نتائج سلبية تعرقل النمو والتنمية وتؤدي إلى إخفاقات كبيرة في هذا المجال. كثيراً ما ننادي بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، ولكن الأهم برأي من يغوصون في التفاصيل والأبعاد، أن نبدأ أولاً وفي كل مطرح بالتنمية العقلية- الذهنية والثقافية، فثقافة الاستهلاك والإتكالية طغت على ثقافة الإنتاج والاستقلالية وتبديل المفاهيم يستوجب تحفيز الناس على ثقافة الإنتاج وخاصة في الريف، والتركيز على المرأة الريفية، بعد أن نحدد المشكلات ونضع الحلول، فلا يمكن لأحد أن ينجح إلّا إذا كان محباً للعمل والإنتاجية ومتحلياً بثقافة العمل، وهذه الخصال كانت لصيقة بالمرأة الريفية.
وغياب المرأة الريفية بخواصها التقليدية، فرض مشاهد الإتكالية السائدة في الأرياف، والتي تجعل من المحزن رؤية مساحات كبيرة من دون زراعة ، والمحزن أكثر اللجوء إلى المخازن أو الباعة الجوالين لشراء حاجات المنزل من الخضار مهما صغرت مع إن زراعة هذه الخضراوات لا تحتاج رأسمالاً أو عناء زائداً، لكن الأمر برمته يمكن وصفه بتسلل الكسل إلى العقول .
صحوة لابدّ منها
هناك من يرى صائباً أن أزمة الغذاء العالمي أزمة تمدن أساساً وبالتالي أزمة توازن عمراني، وتظل المدينة كظاهرة متفاقمة أحد أهم أوجه الأزمة المنبثقة من الخلل في التوازن المكاني والسكاني، ولابدّ للمخططين من أن يضعوا حداً لتفاقم النمو المديني أولاً ثم دعم الحياة التقليدية الريفية في سياق برامج تخطيط إقليمي ونقل الخدمات الضرورية والترفيهية إلى الريف والتجمعات الحضرية الزراعية الصغيرة.
إذاً الاستمرار بتمدين الريف وإنقاص طاقاته المعطل نصفها الآن على الأقل، هو استمرار بتلاشي دوره كمنتج مكتف ذاتياً والتحول إلى الاستيراد ثم إلى مدن جائعة.
النتيجة أننا وصلنا إلى بنية مجتمعيّة ” مختلّة” لن تُصلح بمجرّد النصائح والدعاء والالتماس، بل بالمبادرات الفردية والجماعية باتجاه إعادة ” تعمير” الريف الزراعي، وقد نال القطاع الزراعي كفايته من الدعم والتسهيلات والإعفاءات..فسورية من البلدان الزراعية القليلة التي أعفت القطاع الزراعي تماماً من أي شكل من أشكال الضرائب والرسوم، بل منحته تسهيلات ودعماً محفّزاً للاستثمار بالفعل، لكن أضواء المدينة و طقوس الاسترخاء نالت منّا و أوقعتنا في غواية الترف الأجوف ومطحنة الاستهلاك…وإن بقينا في دوامة الاسترخاء سنكون أمام مشكلة أمن غذائي إن لم نكن قد أمسينا في خضمّها ..وهذه تهمة في بلد زراعي سخي كبلدنا.
كل ما سبق يحتاج إعادة تفعيل، المفصل المهم والحلقة الأهم هي المرأة الريفية.. كيف سنعيد هذه الحلقة الأساس.. كيف سنستعيد مهارات الجدات والأمهات في مسائل التدبير وقيادة التنمية الريفية بأبعادها المختلفة…كيف وكيف وكيف…سنحاول في هذا الملف تسليط الضوء على واقع التعاطي مع بند ” المرأة الريفية ” كعنوان مقيم في وزارة الزراعة، التي خصصت مديرية للعناية بالمرأة الريفية؟؟
اقرأ أيضاً:
«ملف الأسبوع».. منتجات المرأة الريفية تتعثّر أمام عقدة التسويق .. مرغوب شعبياً وممنوع رقابياً