نعمة الاختلال العقلي في واقع فقد صوابه!
تشرين- زيد قطريب:
نعترف بجميل “الاختلال العقلي”، الذي أوصل البشرية إلى رفاهيتها الحالية. أولئك الذين كانوا قادرين على التفكير خارج الانصياع، فتحوا الآفاق الجديدة أمام العالم. منذ اللحظة التي تجرع فيها سقراط السمّ، إلى اليوم، لُوحقت الشتلات الإبداعية في الأرض البور، بتهمة “الهرطقة” وحُكم عليها بالجزّ كي تبقى الأرض ملساء بلا نتوءات.
لم يأخذ صنّاع القوانين بتهمة الاختلال العقلي التي يلصقها الأطباء النفسيون بجميع من يعمل في الحقول الإبداعية. فالمشرّعون ظلّوا قساةً تجاه الكتّاب والفنانين والعلماء، فيما عُدَّ الجنون عذراً مخففاً للمتورطين في الجرائم الجنائية!.
بفضل “الاختلال العقلي” حصلت البشرية على منجزات الطب والفلك والفلسفة والشعر، ولو أن أولئك المختلين ظلوا ضمن السائد والمستقر، لما تمتعنا وتوسعت مخيلاتنا وأمخاخنا، رغم أننا في العالم العربي مازلنا في عصر “الهرطقة”، نعيش على فتات الحضارات العالمية نحلم أن تكون لدينا “اختلالات” أسوة بخلق الله!
لم تكن تهمة الاختلال العقلي التي توصم بالعظماء سيئة، فالأطباء النفسيون لم يستطيعوا تفسير تفرّد المختلين عقلياً ببناء مجد العالم. رغم أنهم شخّصوا إصابتهم بالاكتئاب الشديد والانفصام ثنائي القطب وهستيريا الخوف غير المبرر. وفي كل مرة، يظهر العالم وكأنه فقد صوابه، يبني المختلّون عقلياً طريق أبناء جلدتهم بابتكار غير مفهوم للعموم.
فيزيائياً، الاختلال نقيض السكون، وهو ما يعطيه المشروعية انسجاماً مع منطق الحركة. حتى في حالة تضاده مع حركية المجتمع، فإن حركته تبدأ اختلالاً ثم لا تلبث أن تستقرّ وتهدأ كأنها تدور على محور طبيعي تم فقدانه لزمن طويل. لهذا كله يبدو الاختلال نعمة، وهو الرد الطبيعي من الوجهة النفسية، على واقع فقد عقله أو استقال من مهماته الملحة تحت تبريرات لا تعدّ إلّا تسويفاً في منطق التاريخ.
أحياناً، تتسبب العصي الموضوعة في دواليب الاختلال، بانتقامات يقوم بها الذهن ، فيصل المبدعون إلى الانتحار نتيجة العبث واللاجدوى أو انتصار العطالة على اختلالاتهم. هكذا فعلت الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، عندما وضعت رأسها في الفرن وأحكمت إغلاق الباب بقطع القماش المبلل كي تتمتع بأول أوكسيد الكربون وهو ينهي الجسد. الأمر نفسه بالنسبة لهمنغواي الذي اعتقدوه مجنوناً فترة طويلة واليوم يحتفلون بأعماله وذكراه. لقد أطلق همنغواي النار على رأسه كي يستريح. الأطباء النفسيون أنفسهم قالوا إن الجسد يهدف دائماً إلى تخريب انتباه الذهن حتى لا يتورط بالاختلال كثيراً. لكن الجسد يصاب بالعطب وقلة الحيلة نتيجة العطالة مع الوقت، كما أنه يؤثر السلامة على مغامرات الذهن غير المحسوبة. وبالتالي فإن انتقامات الذهن منه تبدو مشروعة. حتى عندما أطلق خليل حاوي الرصاص على رأسه من بندقية صيد إثر دخول الإسرائيليين بيروت، كان الفعل انتقاماً من الجسد العاجز عن وقف الاجتياح! فالاختلال يحتج ويكبر ويأخذ أشكاله المختلفة.
يقول البعض، يا أخي لا تغرقوا في الكوميديا السوداء، فهناك جانب مضيء في العطالة، ونقول ما كتبه فايز خضور: “عطبٌ هائلٌ ألمّ بوجه الصباح” لا يصلحه سوى الاختلال.. فالاختلال.. نعمة!.