كان يوماً أغبَر ذلك اليوم الذي دخلت فيه الكهرباء إلى قريتنا.. صحيح أنها على فقرها، كانت المرة الأولى التي يدخل إليها مسؤول رفيع وآخر أرفع.. لكن تلك الزيارة لم تدم أكثر من عشر دقائق هي الزمن الذي استغرقه سعادته للنزول من السيارة والوصول إلى القاطع ورفعه مع تصفيق شديد وضحكة مجلجلة.. تضاء اللمبة نصفق بابتهاج يركب السيارة و يعود.. معذور ذلك المسؤول لأن برنامج ذلك اليوم كان كثيفاً والأماكن متباعدة.. بعض (الثرثرية) حاول التخفيف من أهمية الزيارة، لأنه عدّ أن قصر وقتها يعود لعدم نحر الخراف وبالتالي إعداد وليمة تليق بالضيف الرفيع أسوة ببعض القرى الغنية.. أو التي فيها (وجهاء) ومعارف في الحكومة آنذاك، لذلك فهم (موانون) وتستجاب دعواتهم للغداء أو العشاء أو السهرة..
المهم أنه في تلك الأيام لم يكن في أي منزل من منازل القرية سوى اللمبات فقط التي تعطي ضوءاً باهتاً.. أي لا براد ولا تلفزيون ولا غسالة أو مكنة لطحن اللحمة وإعداد الكبة، ولا أي وسيلة رفاهية أخرى مثل هذه الأيام تماماً.
في تلك الأثناء كان في قريتنا بئران، قبلية وشمالية.. ولأن منزلنا كان أقرب إلى البئر الشمالية، فإني أذكر كيف كنا نستمتع بتنظيف البئر مرتين أو ثلاثاً في العام.. وكيف كنا ننقل الماء بجرار الفخار.. نملأ فيها الخوابي التي كانت برادات تلك الأيام.. لم نفكر يوماً بالعطش.. ولم يكن تأمين مياه الشرب أو الغسيل أو حتى ري المزروعات هاجساً لدى أحد من أبناء القرية.. كنا نسقي الماشية من النهر.. ونروي الأراضي الزراعية بمحركات بدائية تضح المياه من النهر وتروى بها الأراضي.. إلى حين دخلت البواكر والتركسات.. تم بناء الخزان و(تندلق) فيه المياه بغزارة (٦ إنش).. حرنت الآبار وجفت مياهها وخاصة بعد أن حلت الحنفية مكان الخابية وأصبح الخزان هو مستودع المياه التي ستفاجئنا بقدومها مرة كل أسبوع.. تعطلت المحركات البدائية بعد أن بنيت السدود وجفت الأنهار.. وأصبح ري الأراضي وفق روزنامة تعد من وراء المكاتب.. ومياه الشرب بالدور الذي تنظمه مجموعة على طاولة (طرنيب).. صحيح أنه في تلك الأيام كانت ليلى بنت ضيعتنا تعيش على الزيتون والجبنة.. لكنها اليوم غير قادرة على تشغيل الغسالة ولا تبريد المياه ولا تخزين فوائض الطعام.. غابت الكهرباء وانقطعت مياه الشرب، وصار البحث جدياً عن بدائل لإيصال المياه.. كالصهاريج مثلاً.. وعندما أصبحت كميات المازوت لا تكفي لتشغيل محركات الينابيع والصهاريج بدأ التفكير جدياً بإعادة استخدام الروى (جمع راوي) الذي يحمل على الحمير بديلاً لاتقاء العطش.. لكن بقيت مشكلة موت أشجار الحمضيات وتقلص الزراعات الصيفية.. عندما بدأنا البحث عن الأسباب وجدنا أن الخطوط الساخنة أخذت الجزء الأكبر من الكهرباء إلى الشاليهات والمشاريع التي لا تسمن ولا تغني إلّا أصحاب المشاريع (البرجوازية).. وفوق ذلك يعترفون بأولوية التجارة والصناعة على الزراعة.. وأن هناك محافظات مظلومة!