“سوء تفاهم”.. لعفيف حمدان في حضرة لغة جريئة مقيّدة بعقم الأمكنة
“سوء تفاهم” مجموعة قصصية للكاتب عفيف حمدان، الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب.. والعتبة النصية الأولى للكتاب أي العنوان، حمل اسم إحدى القصص الواردة في عمق الكتاب، وهذا الاختيار تقليدي في انتقاء العناوين، ولكن اللافت فيه أنه يصلح عنواناً لجميع القصص فـ«سوء التفاهم»، وربما التناغم، أو حتى التماهي لم يسرِ على المجموعة صاحبة العنوان فحسب، بل تعداها كحالة مشهدية تطول جميع القصص، وهذه هي المفارقة الحاضرة بشدة، وقد تبدى سوء الفهم جلياً منذ اللحظة الأولى ليضعنا الكاتب وجهاً لوجه أمام خبايا أنفسنا وتناقضاتها وعدم قدرتنا حتى على قراءتها بمعزل عن الخلاف والاختلاف، ناهيك بالفهم الخاطئ الذي يدور في خلد الأشخاص المنتمين إلى بيئة اجتماعية تغوص في صراعاتها وجدليتها، وما قد تحمله من أبعاد نفسية واجتماعية كارثية النتائج.
تتوزع المجموعة على 12 قصة، بعضها حقق شروط فن القص القصير، وبعضها قد نميل في تجنيسه إلى الخاطرة مثل نص (صبّار) لما يكتنزه من شعورٍ مُتداخل، وجملٍ مترادفة تفتقرُ للأحداث، وتُعبّرُ عن الحالة المرافقة الشعورية للميل للجسد والإعجاب تجاه جمال المرأة، وما رافقها من لغةٍ مُحملة بطاقات شعورية هائلة تتناسب ونصوص الخاطرة.. (أنا فسحة الصحراء وأملي كئيب؛ كثيبٌ يتمطى في وسع الفضاء، وأنتِ غزالٌ هاربٌ في مهبِّ الرمال المتحركة بالنحيب!.)، (أنت هادئةٌ كألوان زهر البنفسج).. وبعضها حمل أطر ومشهدية وحكائية الـ(ق. ق. ج) مثل قصة (موظف).. هنا يحلمُ البطلُ بقطيعٍ من الذئاب يكادُ ينهشُ جسدًهُ، وما يحملهُ الحلمُ من مشاهد مخيفة، يُرافقهُ واقعٌ لا يقلُّ وحشيةً في مكان عمله حيث الفساد والذئاب البشرية تُحاولُ نهشه من دون تردد، وعلى هوى قلقه يُبددُ رموزَ المشهد بين واقعٍ وحلم، وحالة من الصراع النفسي المُتنامي وحوار مونولوجي مُتلبس بالخوف والقلق..
اعتمد الكاتب بشكلٍ واضح على السرد الفني في كثير من قصصه مُقدماً الشخصية في مساحة جغرافية وزمن مُحدد مع دلالات مباشرة، أو مستورة كما في قصة (الزمان والمكان) أصرّ الكاتب على وصف ديكور المكان وتفاصيله الدقيقة مع الأشياء المرافقة (ولاعة، ولفافة التبغ، النادل، التراس) في جدلية الزمان والمكان المتشظية خلف الرغبات، وإغراق النص بالوصف المترف، إذ لا يعد هذا الوصف رتوشاً أو حتى ترفاً فنيّاً، وإنما ضرورة للوصول إلى الخفايا المتعلقة بالشخصية بإيقاظ رغبة الجسد عند البطلة العنيدة، وربما المراهنة على الوقت.. وقد كان للرمز حضورٌ جلي، والمقارنة بين ولاعة الفتاة الضائعة في فوضى حقيبتها، وولاعة الرجل الكائنة بين يديه؛ مهادنة رمزية تُعبّر عن حال كل منهما والدخان المتصاعد من لفافته في محاولة لتشتيت الذهنية المتماسكة وحملها بشرود إلى حيث يرتجي.. متحفزٌ هو، ومتباردة هي، لينتهي المشهد بانخطاف نحو اللاشيء والخيبة وضياع فرصة اللقاء ليكون الزمان والمكان نقطة من اللاوجود.. وفي نص (الخريف)؛ اعتمد الكاتب القص الخيالي معتمداً تقنية الأنسنة، فجعل من الخريف رجلاً ترفاً يُوزعُ دعوةً لحفلاته التنكرية لشخوص مترفة يركبون عرباتهم الثملى وتجرها خيولهم المتعبة، والصور المبالغ فيها كانت سيدة المشهد، فبقي النص يحومُ في سماء الغموض المُصطنع، وهذا لم يفقده شهية ألفاظه التي أغرقتنا في عالم التخييل الساحر.. وفي نص(سوء تفاهم) الذي حمل عنوان المجموعة، نصٌ حكائيٌّ بسيط بشكله، يميلُ إلى الطرافة والتبهيج.. مكانه: بيئة قروية بسيطة، وزمانه: فصل الشتاء القاسي، وأحداثه تدور حول خطبة (سيفو) لابنة (أبي لادا)، وسيفو (بطل الحكاية) هذه الشخصية البسيطة الغارقة في جهلها، وموروثاتها الاجتماعية المريضة عن المرأة.. اندفاعه، همجيته في مكانٍ ما، نزقه واستخدامه لغة تشبهه من حيث الدونية وتناسبُ نزقه، عدم القدرة على إيجاد لغة مشتركة للتفاهم معه ما أوقع (أبا لادا) في مأزقٍ محرج.. المكان والتفاصيل وصفت بدقة، سواء المطر والوحل والحذاء والباب الذي دخلت منه الريح لتعكس لنا الحالة العامة النفسية والاجتماعية والعقلية للشخصيات.. حققت هذه القصة المتعة، واستطاعت أن تخلق حالة من البهجة والاستمتاع بكلِّ التفاصيل.. فقد جاء الحوار متنوعاً، والنهاية مفتوحة، والصراع بين ارتفاعٍ وانخفاض بما يتلاءم مع الحدث ومراعاة الوضع الاجتماعي للشخصيات.. فيما جاءت لغة الكاتب وطريقته في التعبير تعتمدُ في بعض القصص على الأسلوب الشعري والفصيح، وأحياناً مالت إلى البساطة، فكانت الألفاظ سهلة وموحية ومُعبرة لتسهيل إيصال الفكرة والشعور للمتلقي..
استخدم الكاتب اللغة بأسلوبٍ شائقٍ ومتنوع ومتلائم مع الحالة المطروحة أو الحدث، وكانت الألفاظ شاعرية والأساليب بلاغية تعجُّ بالوصف والصور والانزياحات اللغوية والرمز، وتنوع معجمه اللغوي، فنرى الحقل المعجمي الذي برز في وصفه السردي للمرأة عندما وقعت في سوء تقدير عمل الرجل المترقب في قصة (فرصة عمل).. استخدم الكاتب تقنية التناص: وكذلك استخدامه التضمين (مدن تئنُّ بوجع الريح وحمرة الغيوم في مآقيها) عبارة يفوق فيها جمال التصوير كلَّ جمال.. استعارة مكنية متشعبة إلى العديد من الاستعارات.. وصورة أخرى تتميز بمجازٍ صارخ: (الصمت الطاعن في السن)، أضف لاستخدامه التشبيه بأنواعه للتعبير عن الأحاسيس وإعمال الخيال، وقد استخدم التشبيه التمثيلي حتى تمكنه من الغوص في مجازات الصورة من كلا طرفيها كما ورد في قصة (وداع)؛ (نتأت عروق أياديهم الممتدة إلى أكواب الشاي كالزمن المتطفل على جذوع أشجار الزيتون المعمرة).
ولا يسعنا نهايةً إلّا الوقوف على تقنية الأنسنة التي استخدمها الكاتب في قصة (الخريف) الذي استقبل الناس في قصره المنيف على بساط أحلام الغيوم مغدقاً بصفات البشر على كائنات الطبيعة: (وترتدي الجبالُ حلةً الصفير ولباس الراقصات الشفافة).. والختام كان مع قصة (ورقة) ومعضلة الحياة الزوجية الغارقة في جدلية التوافق على الحب والاهتمام والإهمال، خاتماً: (لن تتوقف حرب طواحين الهواء هنا، لا محالة، لا هدنة إلّا بين معركة وأخرى قادمة لا محالة).