لا ينفصل تاريخ العلوم التطبيقية عن تاريخ المنجزات الأخرى للعقل البشري، بل إننا نستطيع القول إنهم ساروا بالتوازي مع بعضهما، كشركاء يكمِّل بعضهم البعض، لغاية الارتقاء ببني الإنسان، وجعله خارج دائرة الاستسلام لقدر ضعفه أمام الطبيعة، وأمام الظرفية المكانية الحاكمة الشرعية لثقافته المجتمعية، والتي بدورها ستكون سبباً رئيساً لجعل البشرية شعوباً وقبائل، تنتج خصوصيتها ضمن حلقتها الخاصة، لكنها في الوقت ذاته لن تحيد عن الهدف الأساس الذي فُطر الإنسان على التمسك به لضمان استقلاله عن الكائنات الأخرى، وطموحه المستمر في التغلب عليها، بغية استثمارها لضمان مستقبله فوق هذه الأرض ..
هذا الاستعراض، يبدو من البساطة بمكان، إلّا أنه يشكل مقدمات لأسئلة ملحة، تطالبنا بالوقوف على أجوبة لدرء خطر الفناء الذي يتجاوز تهديده الجنس البشري، ليطول الكوكب، ورمزيته الأكثر جمالاً في هذا الفضاء الفسيح، وإذا كانت الأسئلة السابقة، أي في زمن انسجام العلوم مع بعضها، قد استُعبدت مِنْ قبل مطلب التفوق الغريزي، فإن الإجابات على ( مَنْ نحن؟..) كانت – دائماً- ذريعة لخطاب الكراهية بين الشعوب، والذي استطاع بدوره أخذ دور الراعي، ليس لفصل العلوم الإنسانية عن منجزات العلوم التطبيقية، وحسب، بل دفع بالأخيرة للهيمنة على مقومات الحياة، كسلطة دكتاتورية لا يمكن ردعها، أو الفرار من كماشتها الفولاذية، مهما تعالى شأن نتائج المحاولات التي تقدمها العلوم الإنسانية، بقصد الإضعاف من حدة آلاتها العسكرية والاستهلاكية على وجه الخصوص، وهذا ما يستدعي من الأولى البحث عن أسئلة ميدانية ومعاصرة، تبدأ بـ:( أين نحن!!)، مع كبح رغبة خطاب الكراهية بأن يكون موجهاً ضد منتجات التكنولوجيا الحديثة، ونقله ليكون أداة قمع لأخطبوط رأس المال، الذي لا يرى من الإنسان وتاريخه، ومنجزاته سوى وسيلة طيعة لتكريس السائد من الأسئلة، والإجابات السالفة التي قدمتها أدبيات العلوم الإنسانية، لكونها الضامنة الأكثر ألفة مع تمدده أفقياً وعامودياً..
-عند مراجعة المنجز الأدبي، الفلسفي، الدراسات الاجتماعية، في عصر الاتصالات الأكثر حداثة، سيتبين أنه لم يخرج من عباءته القديمة إلّا من حيث اللغة، وطريقة تقديم الموضوع فنياً، بمعنى؛ لم يخرج عن محاولات الإجابة عن: ( من نحن؟) بشكلها التقليدي، والتي لن تتجاوز” الجندر- الجنوسية” حتى عند تجاوزها للبنية الفيزيولوجية للفرد، لتدخل بتفصيلات تعود بكل تشعباتها إلى الهوية بمفهومها العام الخاص، لنقف في النهاية على حقيقة مرة، مفادها يتلخص بأن تلك المنجزات ساهمت إلى حدٍّ ما بتكريس خطاب الكراهية، أكثر بكثير من الظن أنها تحاول الدفاع عن الإنسان المقهور، أو رفد المجتمع البشري بجماليات قد تكون غائبة عنه، أو أن تكون وسيلة للتعارف بين أقوام الأرض، فخطاب الجندر- الجنوسية ” لم يكن يوماً- في خطابه الباطني- سوى دعوة لإلغاء الآخر، ما جعلها في أزمة، تجاوزت حدودها في العصر الحاضر، لتسقط في حفرة الفشل، بينما تتابع العلوم التطبيقية منجزاتها المستحدثة دائماً، واضعة كلّ قديم في سلة المهملات إلى الأبد، لا بل أنها تغري الإنسان بالخضوع لمتطلباتها، ليتابع المال- حليفها الأعظم- دورته الحمضية في شرايين العلوم الإنسانية مستفيداً من طروحاتها الجندرية لتأجيج الصراع بين البشر، واعتباره واجباً إنسانياً، لا بدَّ من الإعلاء من شأنه، لكونه يمثل أحد أسس التقدم والتحرر لأي شعب من شعوب الأرض!!..
فاتح كلثوم
5 المشاركات