“من دمشق إلى باريس”.. حمود شنتوت يبني مُدناً لا حدود لها
لبنى شاكر
من قرية “السفيرة” شرقي حلب إلى مدينة “كريتاي” الفرنسية، الأولى مسقط الرأس 1956 والثانية مكان الإقامة في المُغترب، وما بينهما رحلةُ حياةٍ، عاشها “حمود شنتوت” عاملاً في الدهان، بائعاً في متجرٍ للكنيسة، ورسّاماً منذ الطفولة. ابتسمَ له القدر باكراً، حين ألهمه التنقل بين الأمكنة، عادَ بدايةً إلى محافظة حماة حيث تنتمي عائلته، ومن ثم عرف دمشق وباريس، سَكَنَ غرفاً كثيرة، نامَ في الحدائق، رسم على الجدران والأرضيات، تعددت معارضه ومشاركاته، إلى أن كان معرضه المستمر حتى نهاية الشهر الحالي في غاليري جورج كامل، “من دمشق إلى باريس- بحيرة كريتاي”، محطةٌ تُضاف إلى سابقاتها، تجديداً في الموضوعات والألوان “25 لوحة”.
القراءة في مشوار شنتوت الفني، تُنبئ بخصوصيةٍ واضحة، تجاوزت الالتزام نحو التجريب، بمعناه المُرتبط بالجرأة والحرفية، فبدأ بتصوير أماكن إقامته من غرفٍ ومراسم، بالألوان الزيتية، تلتها تجربةٌ مع الأيقونات والرموز الدينية، مُتأثراً بإقامته وعمله في كنيسةٍ فرنسية، في مرحلةٍ أخرى، سيحضر اللون الأسود بقوة مع الرماديات والأحمر، ثم سنرى الأزرق والأصفر، مع عناصر بشرية محدودة وموضوعات خيالية، سينتقل بعدها إلى ما يعنيه شخصياً وفنياً، هكذا تتعدد المحطات والوقفات، تتشعب خطوطه ورؤاه، حتى يُمكن القول، إنّ التنقل امتدّ إلى اللوحة نفسها، فعرفت تنوعاً واختلافاً، ظهرا فيها باستمرار، انطلقا دوماً من رؤيةٍ ذاتية، لم تتجاهل ما حولها، ولم تركن له بالمقابل.
في هذا المعرض، تحضر الأمكنة بقوة، لكنّ عدداً منها، خضع لخيالات الفنان، جزئياً أو كلياً، فتحت عنوان “حنين” يعود شنتوت، إلى البيوت الطينية القديمة، ذات القبب نصف الدائرية والجدران الملساء، حيث كان وعيه الأول، وفيها تبدو الأجواء الترابية والمناخ الجاف، بألوانٍ هادئة، أكثرها من البني والأصفر، فيها ملامح لامرأةٍ، تُعطي حياةً إن صحَّ التعبير للمكان المُقفر، وفي لوحةٍ ثانية، يشتغل على مكانٍ شبيه، “حمام الأرماني”، الواقع قريباً من شارع الثورة في دمشق، والمُتميز باثنتي عشرة قبة، وواحدة تفوقها حجماً، معروفٌ أن الحمام بقي يعمل حتى عام 1990، ثم تُرك من دون عناية، فتهالكت جدرانه، وتراكمت حوله القمامة، إلى أن رُمِّمَ قبل أعوام، ومن البيت والحمام القديمين، إلى جامعٍ شاهدٍ على تاريخ مدينةٍ وأبنائها، “الأموي” بقبتيه الصغيرتين المتقابلتين.
المزج بين مكانٍ قائمٍ على الأرض، وآخر في الذهن، ينسحب على عدة لوحات، ربما تشابهت في الشكل أو جمعتها المصائر والحكايات بطريقةٍ ما، أدركها الفنان، وأراد لنا الانتباه إلى مُشتركاتٍ، لا تحدها مسافات، وهو الذي خَبِر الترحال جيداً، فكانت أعماله عن “كريتاي”، في الضاحية الجنوبية الشرقية لباريس، إعادة بناءٍ، لتفاصيل واقعية فيها، النهر والغابات والبحيرة، مارسَ عليها لعباً وإضافات، حتى استحالت مدينةً جديدة، كما رآها وأرادها شنتوت، تتداخل ضفافها الزرقاء، مع ترابها البرتقالي، في الليل تُضيء نفسها بنفسها، رغم سمائها الرمادية، وفي النهار تزورها قوارب بيضاء، في أيلول يكثر فيها الأصفر، تعلو فيها أشجار الصفصاف، بشكلها الطولاني وأوراقها الكثيفة.
التمكُن من الأدوات، وقدرة الذاكرة على الاحتفاظ بالهيكلية الأساسية لكل شيء، أكسبت اللوحة موضوعاتٍ لا محدودة، استندت مجموعةٌ واسعةٌ منها إلى المدينة الفرنسية، وجاءت في شكلها المُبتكر تحت أسماءٍ تتوازى مع فكرة استنباط خيالٍ من حقيقة، مثل “الحلم”، “حنين”، “تأمل”، “الربيع”، وفي لوحتي “الغروب” و”كريتاي”، اقتربَ المُستحدث من الأصل، لدرجةٍ كبيرة، إشارةً ربما إلى ما تفعله الأمكنة في أحلامنا، تحدها وتُطلقها في الوقت نفسه، فنرغبُ أحياناً بتغييرها، مع خوفنا الابتعاد عنها، لعلمنا بأن التغيير سيطولها، مهما بدا ذلك بعيداً وبطيئاً، ولعلّ شنتوت قصد تغييراً، تُعايشه ذواتنا، بحكم الزمن والسفر، فما يريده أحدنا يوماً، سيتلون ويتبدل وينتهي إلى المنسيات أو إلى شيءٍ آخر، إذا ما قُدِّر لنا، معرفة أماكن ومجتمعاتٍ وشخصياتٍ، تختلف باستمرار.