أغاني الأطفال العصرية.. دسُّ الخواءِ في النغمات!

ما زالت هدهدة الأم وليدها ليرقد في حضن الطمأنينة؛ سلوكَ الأمومة الأول الذي أثبت منذ الأزل أهمية النغمة والأغنية بسكينة النفس وأمانها. ينمو الطفل وتبدأ ضرورة السعي لبنائه جسمياً وعقلياً واجتماعياً فيجد الأهل في الأغنية وسيلة ناجعة لإكسابه بعض العادات والقيم وزيادة حصيلته اللغوية، كما تعمل الأنشودة على تطوير ذائقته الموسيقية وتطريز إحساسه بالجمال والفن، أما الموسيقا العذبة والأنغام الرشيقة الخفيفة، فتحلّق بالطفل عبر كلماتٍ بسيطة بما يحبه من ألوانٍ وأزهار وطيور.
ما انفكت ذكرياتنا، نحن أبناء «الزمن الجميل»، مترعة بأغانٍ لا تنسى، حين كنا نتحلق صغاراً شغوفين أمام التلفاز الوحيد في البيت، قرب شاشةٍ صغيرةٍ أنشد أطفالها أعمق المعاني، وغنت شارات مسلسلاتها الكرتونية أروع الألحان، كنتُ في حالة من الاستحضار التام، حين تناهى لمسامعي مقطع مفاجئ «بابا جبلي بالون»، أيُّ أنشودة تتعالى من الجوار « يا عيني…يا عيني»! كم نجح ذاك البالون ببعثرة خيوط دماغي الوضاءة وتعطيل ذاكرته.. سارعتُ للشرفة، فأبصرت طفل جارتنا، لمّا يتجاوز الثالثة من عمره بعد، متسمراً أمام لوحه الإلكتروني، وسرعان ما تذكرت شكوى أمه من تأخره بالنطق وانطواء شخصيته واعتكافه عن الانخراط مع المحيط!
مع احتدام الصراعات التكنولوجيـة المبهـرة لتصنيع مواد مرئية لاستقطاب الأطفال، عبر وسائل متعددة، لا تزال الأغنية إحدى الوسائل المهمة لتعبير الطفل عن انفعالاته، وأقرب الفنون إليه، خاصة إن كانت تترنم بحكاية هادفة ولحن محبب يثري خياله ويكسبه قيماً وسلوكيات متحضرة، كما تهوّن عملية تعليمه وتثقيفه إلى جانب تكثيف ثروته اللغوية والوطنية، لكن في الوقت ذاته لا يمكن التخمين بمدى متابعة الأمهات مع أطفالهن للأغاني المعروضة بكثافة على مدار الساعة، خاصة مع ضرورة تعويدهم مناقشة ما يشاهدون لا تقبله أو التطبع به.
العازفة ومعلمة الموسيقا الفرنسية «ماري بيير بيكو» قدمت عبر موقع «إليتيا» الفرنسي، وجهة نظر هامة عن كيفية توجيه ذائقة الطفل عبر إشراك الجزء العاطفي منه باكتشاف الجمال الموسيقي مقترحة دعوة الطفل مع صديقه لحفلات موسيقية، أو الإصغاء معه لأغنية راقية محببة وسرد ذكرياتنا معها، تقول: « يجب أن تمنح طفلك لحظات لا تُنسى مع الألحان الموسيقية، أما الأهم فهو الحرص على عدم معارضة ذوقه الموسيقي ولو كان هابطاً أو مبتذلاً، بل التعبير عن وجهة نظرك بعدم محبتك لهذا النمط الموسيقي مع توجيه أبنائنا بشكل غير مباشر للموسيقا الكلاسيكية المميزة».
الأغنية الفارغة بمستواها المتدني الفاقدة للمعنى والهدف، الصادحة بلحنٍ عشوائي، القائمة على العوامل البصرية الأخاذة، تتسرب بخفة لدماغ أطفالنا لتأسرهم بحقل أخطارها الجسيمة المتمثلة بتشكيل تكويناتٍ شديدة التأثير في عناصر الخيال لديه، تجمد عقله عن التفكير والإبداع، خاصة مع مشاهد ذات مضامين «غبيّة» معززة بالنغمة المتأججة والصورة الفاتنة المشرقة! وهذا ما حذرت منه الاختصاصية النفسية «سلام قاسم» بالقول: «من أهم الأسباب التي تحثّ الأسرة على السماح لأطفالها مشاهدة هذه القنوات هو ما ينضوي تحت الرغبة في إرضاء طلباتهم أولاً، مع اعتقادهم تالياً بأن هذه القنوات تنمّي قدرات أبنائهم الإدراكية والمعرفية، إضافة لحرصهم على إشغال الأطفال وتهدئتهم. لكن الوالدين – تكمل قاسم – قد لا يدركان الآثار السلبية المتمثلة بإضاعة الوقت أو تخيل و تقمص شخصيات معينة أو الميل للعزلة و قطع العلاقات مع المحيط، والانفصال عن الواقع و تعطل القدرات».
ولأن قنوات الأطفال المستندة إلى الموسيقا والرقص تؤثر في حاسة السمع، وتؤدي للتشويش الذهني عند الأطفال، توصي الاختصاصية النفسية بإبعاد الأبناء عن قنوات الرقص والغناء تلك، ومحاورتهم يومياً لساعة متقطعة الفترات، وإشغالهم بقراءة القصص والترنم بالأناشيد الهادفة بصوتٍ مرتفع بطيء بما يجلب المتعة و الفائدة والتخلص من إدمان هذا العالم.
ونؤكد في النهاية على الدور الهام الذي تبثه قنوات أغاني الأطفال في نفسية وحياة الأطفال وتعريفهم بالعالم والبيئة وباللغة والعلم والمعارف والسلوكيات، لكن أخطرها مازال هائلاً مع غياب المتابعة والانتقائية والرقابة، ولا يمكن في عصر الإنترنت حجب أطفالنا عن عالم اعتادوا المضي في دروبه، لكن بالإمكان تخفيف الآثار السلبية قدر الإمكان عبر التأكد من أنّ لدى صغارهم دافعاً محدداً لكل ما يتابعونه، كما يتوجب الحد من استمرارية المشاهدة التلقائية لأي سبب كان، إضافة لمشاركة أحد أولياء الأمور الإصغاء لأغانٍ ترتقي بمسامع طفله وروحه وذائقته.