الروائي التنزاني غرنة.. منفىً وشتات وانقلابٌ على الأوصاف النمطية لشرق أفريقيا
لا يمكن أن تطالع صفحة من روايةٍ للكاتب والروائي عبد الرزاق غرنة الحائز على جائزة نوبل للآداب هذا العام، من دون أن ترسم الكثير من علامات الاستفهام والتعجب واشماً الهوامش بالاستفسارات, تأملاتٌ، ذكرياتٌ حسية، حكاياتٌ وفرضيات، مذكراتٌ مبعثرةٌ يحملها النازحون في جعابهم, الشتات، إعادة تشكيل الهوية، الهجرة والعنصرية، تأثيرات الاستعمار ومصير اللاجئين, إنه الانقلاب على الأوصاف النمطية لشرق أفريقيا، وتسليط الضوء على البلاد المتنوعة ثقافياً والمجهولة من قبل الكثيرين, فن من التشويق لا يباريه أحد من الكتاب الأفارقة.
أربعةٌ و ثلاثون عاماً مذ خطّ الأديب والناقد التنزاني عبد الرزاق غرنة، البالغ من العمر 73 عاماً، روايته الأولى ليسيل حبره دفاقاً كتاباً إثر الكتاب: «قلب الحصى»، و«الجنة»، و«الهجران»، و«بعد الموت»، و«ذاكرة الرحيل»، و«دوتي»، و«طريق الحاج»، و«جنان»، و«عبر البحر»، و«صمت مدهش»، و«فرار»، الكثير منها تم ترشيحها في عدة جوائز عالمية، أبرزها جائزتا «البوكر» العالمية و«وايتبريد».
فضولٌ ساقني لدرب «الجنة» التي سمتها لجنة نوبل العمل الرئيس لعبد الرزاق غرنة، الرواية نُشرت عام 1994 أما تفاصيل حكايتها فجرت في شرق إفريقيا إبان فترة الاستعمار بين طياتِ كتابٍ مترع بثراء حسيّ، وومضاتٍ من الشبق، وهواجس البطل واختلاجاته النفسية – حيث تستحضرُ شبكة من المجتمعات متعددة اللغات، مهددة بزحف ثقافة أحادية مستعمرة, «الجنة» تتبع قصة يوسف، الصبي الذي دفع ثمن إفلاس والده فرُهن لسداد الديون، مكابداً الأمرّين أثناء سفر قافلة التاجر «راهنه» من هجوم القبائل المحلية للحيوانات البرية والتضاريس الصعبة، لتأتي الحرب العالمية الأولى بكل ما فيها من فظائع التجنيد والتدمير.
أما رواية «عن طريق البحر» (2001) فـمنضوية ضمن أدب ما بعد الاستعمار مصوّرة العلاقة المشحونة بين رجلين زنجباريين اجتمعا في إنجلترا بعد سنوات من لقائهما الأول، ضمن سلسلة أحداثٍ تتناسب مع مواضيع التاريخ والهوية و الذاكرة، إنها رواية مركبة تمنح مساحة هائلة للشخصية، تتطلب تورطك الشخصي بأحداثها .
حبكةٌ حزينةٌ ومثيرةٌ للذكريات نعيشها في رواية «قلب الحصى» المنشورة عام 2017, تثير البهجة في بعض من أركانها، لتمسي مثالية لقضاء أمسية خريفية ساحرة . . «لم يكن أبي يريدني»، هكذا يعلن الراوي سالم في سطر الرواية الأول تلميح لفقدانِ الحب الأبوي في رواية تتخبط بالزمن بين الماضي والحاضر، ليطوف الكتاب بعيدًا عن لغز حبكته الظاهري.
ما انفك عبد الرزاق غرنة يهجس بطفولة بلاده المستعمرة وثقافتها الإسلامية العميقة التقليدية المرتبة حسب تقويم المهرجانات والاحتفالات الدينية, فأتت رواية «الهجران» (2005) بأسلوب ممتع يذكر بحنينٍ لطيف وفضائلَ إنسانية تقابلها وحشية مجتمع سفاح القربى, «الهجران» استئصال الجذور حين تبهت ثقافة الأقلية بفعل الفوضى التي حلت محلها.
ما انفك الفضول يدهم القراء للتعرف على الرواية الأولى للحائز على جائزة نوبل، إنها «ذاكرة الرحيل» التي نُشرت في المملكة المتحدة عام 1987, أحداث تدور حول رجل مسلم في بلد أفريقي مجهول، غادر أمته للعيش في كينيا. في مراجعة لصحيفة نيويورك تايمز، أشاد ريتشارد نيكولز بالرواية واصفاً إياها بأنها: «شرسة” و”حية” و”متقنة».
فرارٌ ومنفى وخذلان في رواية غرنة الخامسة «الإعجاب بالصمت» (1996) ضمن حكاية رجل زنجباري يفر إلى إنجلترا ليعمل مدرساً ويربي ابنة مع حبيبته الإنجليزية البيضاء, يعود إلى زنجبار بعد منفاه الطويل ليعيش غريباً فاقداً الوطن من جديد.
أما «الحياة بعد الموت» (2020) فروايةٌ أدرجت في القائمة الطويلة لجائزة أورويل للرواية السياسية, خيالٌ تاريخيٌّ في سياق تمرد ماجي ماجي، وتتبع أبطال أربعة يعيشون في شرق إفريقيا المحتلة من قبل ألمانيا.
بعكس مولد معظم أبطال غرنة تأتي البطلة دوتي في روايته الثالثة «دوتي» (1990). المترعرعة في ليدز بإنجلترا، ضمن أسرة فقيرةً ذات أصولٍ مختلطة غامضة تصف الرواية نضال الفتاة كأمٍ لأخيها وأختها بعد وفاة والدتهم.
مشيّداً لهياكل المشاعر التي تولدها الهجرة والمنفى؛ نسج غرنة حبكة روايته “طريق الحجاج” مثلها مثل: «عن طريق البحر» و «الهجران»، يطالع النقاد الرواية على أنها رعوية بحكم كثرة لحظات الانسجام مع الطبيعة . لكنها ما برحت رواية تتناول التجارب اليومية المدمرة للهجرة والهوية البريطانية السوداء.
ختاماً لا بد من التنويه أنه وبالرغم من إعلان الأكاديمية الملكية السويدية، عن منح جائزة نوبل في الأدب للتنزاني عبد الرزاق غرنة لإسهاماته البارزة في مجال الأدب، إلا أنه لم يتم العثور حتى الآن على ترجمة عربية لرواياته أو أحد من كتبه, بما يثير تساؤلاً نضعه بين يدي دور النشر العربية .