«ضوءُ المصباح الوحشيّ».. حين يَتعاشَقُ الشِّعرُ والفنُّ التشكيليّ!
يصوغُ الدكتور ثائر زين الدين أفكارَ كتابه «ضوء المصباح الوحشي» عن الشِّعر والفنّ التشكيلي (الصادر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب), مستوحياً العنوان – كعتبة أولى – من ذلك, الضوء الذي يسقط على جسد الفتى في لوحة «الإعدام رمياً بالرصاص» التي رسمها فرانشيسكو غويا عام 1814، دافعُه في ذلك سؤالٌ يؤرّقه كشاعر, وهو: «كيف يمكن للكاتب أن يعيشَ مستخدماً حاسّة البصر أجمل استخدام؟»، بمعنى؛ أنْ يتعلّم من الفنانين التشكيليين كيف ينظرون، وكيف يرسمون أفكارهم ويجسّدون مشاعرهم رسماً أو نحتاً أو كلمات.
ويخبرنا بدايةً مقولةً لأبي عثمان الجاحظ أنّ «الشعر صناعةٌ وضربٌ من النسيج وجنسٌ من التصوير» ناقلاً لنا دهشته بهذه الصورة التي يستحضرها الجاحظ، من صور الأنسجة والأقمشة باهرة الجمال والنقوش والألوان في أسواق بغداد والبصرة، ليشبّهَ بها الشِّعرَ بما يُحيلنا إلى هذا الرابط بينه وبين الفن التشكيلي!.
كما يُذكّرنا بما قاله ليوناردو دافنشي (1452-1519): «الرسم شِعرٌ يُرى ولا يُسمع، والشِّعرُ رسمٌ يُسمَعُ ولا يُرى».. كلُّ تلك المقولات للتأكيد على العلاقة القديمة بين الشعر(الأدب عموماً), والفن التشكيلي لأنهما «عبر التاريخ متوازيين مترادفين، عالجا الكائن البشري, واقتبسَ أحدهما من الآخر»، رغم القول عند البعض بأسبقية النحت والتصوير على الكثير من الروائع الأدبية في زمنَ الوثنيات وآلهة الأولمب، فكثيرٌ من شخصيات تلك الملاحم انحدرتْ من العمل الفنّي الذي كرّس نموذجها، وأوحَتْ هذه التماثيلُ للفلاسفة والشعراء والمفكرين بروائعهم الأدبية، كما أوحتْ لوحاتُ (برودون – الليالي المقمرة), ولوحات جوزيف فيرنيه التي تعرض أمواج البحر لـ«شاتوبريان» كي يصفَ العاصفةَ والليل, ثم ينقلنا أو يعيدنا الدكتور زين الدين ليتحدث عن تأثيرات التماثيل والدّمى الطينية التي صُنعت للآلهة عشتار والعزّى والّلات… وكيف صارت من الصور الشعرية المتضمَّنة في قصائد العرب مثالاً على التأثير الكبير للنحت والرسم ونقوش جدران قاعات الملوك على مخيلة الشعراء, يقول المرّارُ بن منقذ متغزّلاً بالصبايا:
قد نرى البِيضَ بها مثل الدّمى لم يخنهنَّ زمانٌ مُقشَعِرُّ
يتلهّينَ بنوماتِ الضّحى راجحاتِ الُحلمِ والأنْسِ خُفرُ
وفي عصر النهضة رُسمَتْ لوحاتٌ عديدة من وحي «الملهاة الإيطالية» التي نظمها الشاعر دانتي عام (1321م) فأثّر في العشرات من الرسامين، حين رسم جوزيف كوخ لوحة «دانتي وفيرجيلو في الليمو», أو حين أنجزَ «جان أوجست دومنيك أنغر» لوحة «باولو وفرانشيسكا وقد فاجأهما جانتشوتو»، وحين رسمَ «وليم بليك» أكثرَ من مئة رسمٍ توضيحي للكوميديا الإلهية بأسلوب الحفر والطباعة منها «زوبعة العشاق» و«غابة المنتحرين»!.
ويسوق لنا زين الدين ما قاله إرنست همنغواي عن دهشته وتأثره بما شاهده في باريس كل يوم تقريباً في قصر اللوكسمبورغ من لوحات للانطباعيين العظماء: كنتُ أذهب إلى هناك كل يومٍ تقريباً لمشاهدة لوحات «بول سيزان» و«مانيه» و«مونيه» وغيرهم .. كنتُ أتعلّم من سيزان كيف يجعل الكلمات جملاً صادقة مُبسّطة».
ورغم أن هناك مَن يُجادل ويقول: إنَّ الوصفَ الأدبي ليس إلا وصفاً اصطلاحياً يُقاربُ الحقيقة, ولا يملك من قوة الإيحاء إلا بمقدار ما تحمله الذاكرة البشرية من الصور البصرية”، بمعنى أن الكلمات لا تستطيع أن تُصبحَ صورةً، إنها مجرّد إشارات لا تُقدّم إلى باصرتنا ما يذكّرنا بما تُسمّيه أو تصفه إلا عبر ما تبعثه في أذهاننا من صورٍ غافية في زوايا الذاكرة، ولو كانت خاليةً من الصور لما استطاع الوصفُ الأدبي أن يُضيءَ في أذهاننا إلًا العدَم!, ورغم طرافة الفكرة والذهول الذي تولّده إلّا أن جدلية العلاقة بين الفن التشكيلي والشِّعر/الأدب, أو أسبقية أحدهما على الآخر هي جدليّةٌ قديمة/حديثة ومتداخلة – يُكمل زين الدين – ويقول لنا: إنّه ليس من المهم أن نعرفَ بالضبط أيهما سبق الآخر، بل الأهم هو هذا التمازج بينهما عبر الأزمنة فمَنْ منهما مثلاً قد أشاع الكآبةَ والحزنَ الخلّاقين اللذين يمثلهما أتباعُ المدرسة الرومانسية؟..أم إنهما عَمِلا معاً فولَدتْ إِثر ذلك مدرسة فنية أدبية متميزة؟!.
كما ينوِّعُ الباحث مصادره، ويكثّف اقتباساته، ويعدّد فصول دراسته، فنقرأ في فصل «الأعمال التشكيلية» التي تُغذّي خيال الشاعر بصورة مباشرة, ينقل لنا كيف وصَفَ النابغة الذبياني محبوبته متأثراً بتماثيل الربّة عشتار زمنَ الجاهلية:
قامتْ تراءى بين سجفي كلّةٍ كالشمس يوم طلوعها بالأسعدِ
أو دُميةٍ من مَرْمَرٍ مرفوعةٍ بُنيتْ بآجرٍّ، تُشادُ، وقَرْمَدِ
وكيفَ استرفدَ الشاعرُ البحتريّ عملاً فنياً تشكيلياً رآه على جدران إيوان كِسرى في قاعة العرش بالقصر الأبيض في «المدائن – عاصمة الفرس», مصوِّراً معركةً بين الفرس والروم سنة 540 ميلادية:
وإذا ما رأيتَ صورةَ أنطا … كية ارتعتَ بينَ رومٍ وفُرسِ
والمنايا مواثلٌ وأنوشر … وانَ يُزجي الصفوفَ تحتَ الدِّرفسِ
وعراكِ الرجال بين يديه في خفوتٍ منهم وإغماضِ جَرْسِ
أو حين يستلهم الشاعر الإنكليزي «كيتس» قصيدته «الوعاء الإغريقي» من آنيةِ زهرٍ إغريقية منقوشٍ عليها مشاهدُ من حياة أناسٍ، وعذراواتٍ، وأعشاب داستها الأقدام، وكاهنٍ يسوقُ أُضحيةً بقرةً.
ثم في فصل «قصيدة العمل الفني التشكيلي» يحكي لنا الباحث زين الدين كيف أثّرت «لوحة الإعدام رمياً بالرصاص» عميقاً في وجدانِه فألهمته ليس فقط عنوانَ الكتاب هذا، بل أنْ ينظمَ قصيدته «مصباحُ غويا/الإعدام»، يقول فيها:
كأنّ الزمانَ يُعادْ
كأنَّ جمرَ الضغائنِ لمّا تزل تتأجّجُ تحت الرمادْ
وها إنني الآن أبصرُ وجهَ فتىً يتقدّم أقرانَه
وهو يصرخُ فيكم وقد شرّعَ الصدرَ
وأطلق نحو السماء يديه جناحين:
لستُ أخافُ بنادقكم.. لم أكنْ ضدّكم.. لم أكنْ معكم
غير أنّي لستُ أبيعُ
ولو توّجوني مَليكاً – ترابَ البلادْ.
ونمرُّ على فصل «الشاعر يستلهم موضوع الرّسم» فيخبرنا زين الدين عن قصيدة طريفةٍ تحمل عنوان «في فنّ الرسم» للشاعر السوري صقر عليشي، نقرأ مقطعَها الأول بعنوان «في رسم بقرة»:
قلتُ لنفسي:
أسهل لو نرسمها في المرعى
وهي تقضُّ الأعشابَ الغضّة
هذا يُعطي اللوحةَ نُضرتها
وتُلائمُ فيما لو علّقَها أحدٌ ما
يوماً في الصالون، فلونُ العشب يريحُ الجدرانْ
(…)
ولنأخذْ حِيطتَنا … لو يَصدرُ أيّ خوارٍ
يهتزُّ فضاءُ اللوحة إذ ذاك ويجفلُ منه الوقواقُ الواقفُ في أعلى شجر الحورْ
نذراً لو هدأتْ سأزيدُ جمالاً في لفتتها
وأحطُّ لها حُزناً في العينين
بعيدَ الغورْ
سأبينُ لها في الوجه ملامحَ في الطيبة لا تبدو في الإنسانْ.
ولعلّ فصل «القصيدة البصرية» من أجمل فصول الكتاب، إذ نقرأ فيه أن هذا المصطلح (يتعدد إلى القصيدة الهندسية، وقصيدة البياض، وقصيدة الفراغ، والقصيدة الشجرة، وهناك أيضاً مصطلح الشعر محبوك الطرفين، والقصيدة التشكيلية… إلخ), ويعني أنها قصيدة تعتمد على حاسة البصر ليس فقط في القراءة بل في تعاملنا مع تموضعات المفردات في مساحة بياض الورق، وطرائق تشكيلها، ونظام ترتيبها… بما يخلق متعةً فنيّةً تتجاوز استمتاعنا بالكلمات ومعانيها إلى الغوص في رؤيةٍ بصريةٍ غنية تتعالقُ فيها مختلفُ عناصر القصيدة حتى في فراغاتها التي تؤدّي دوراً عضوياً في بناء النصّ.
يُحسبُ للدكتور ثائر زين الدين (الشاعرُ ومدير عام الهيئة العامة السورية للكتاب) هذا الجهد المتفاني في جمع وتوثيق هذه الدراسة الممتعة مع فصول أخرى غنيّة بأمثلتها منها«الشاعرُ فناناً تشكيلياً»، والختام بملحق صورٍ تُوضّح ما جاءَ في متن الكتاب.