النحّات فؤاد أبو عسّاف: النحتُ لا يُطلقُ ناراً لكنه يصنعُ محبّةً وهذا هو خطُّ دفاعي الأخير
تنبجسُ المنحوتةُ مِن بين يديه كما لو أنها ماءٌ ينبعُ من صخرة، بل ينبعُ المعنى من قلب البازلت بهدوءِ الماء السائل على جسد المنحوتة، لا يشتغلُ منحوتاتِه بالصّرامة والدقّة اللامتناهية التي نحت بها مايكل أنجلو مثلاً أعماله، فليس الخلودُ أو فلسفةُ الروح/ وما بعد الموت هي هاجِسُه، إلا أن تعبيريته العالية واللصيقة بواقع الحال، وعذابات البشر العاديين، ورحلة التهجير، ومتاهات السوريين اليومية، والتكرار العبثيُّ لمواجعهم وحرائقهم، ومآلاتُ جغرافيا أجسادهم وجغرافيا وطنهم… هي ما أرّقه، فصاغتْ يداهُ محبته وقلقه عليهم بطريقته المتفرّدة.. هو النحّات فؤاد أبو عسّاف مَنْ يُجيدُ الكلامَ نحتاً وأيقوناتٍ نحتيةً أكثرَ مما يفعلُ بالكلمات أو بأحرفِ الأبجدية؛ التقته «تشرين» وسألناه:
* بداية، لفت نظري عملان لك: أحدهما بعنوان «الدريئة»، والثاني عملٌ من ضمن عدة منحوتات أسميتَها «سيزيف السوري»… ما الذي دفعك وحرّضك على نحتهما؟ هل يمكن أن نردَّ ذلك إلى موقفٍ مُعلَنٍ ومباشر وواعٍ تجاه ما جرى لسورية… أم هي ردات فعل عاطفية لا شعورية أقرب إلى ما يجول في روحك ويتركك نهب القلق والأرق؟
«الدريئة» و«سيزيف» هما نحن بوصفنا سوريين مهددين بالفناء ويعمل الآخرون على ذلك بدءاً من قُطاع الطرق وصولاً إلى البوارج الأميركية، وذنبنا الكبير أننا ولدنا على هذه الجغرافيا الملتهبة (سورية) المحوطة بالوجع، وأتى «الدواعش/آكلو الجرذان» بحجّة تقريبنا من الجنة التي يدّعون احتكارها، لكنهم التهمونا والتهموا الجنّة السوريّة، مع هذه الحال، لا يمكن أن تكونَ محايداً..
نعم، القلقُ والأرقُ ممّا يحدثُ قد يشكّلان حافزاً لي، ولكنهما ليس كل شيء، وكونك ابن هذه الجغرافيا/الوطن؛ فأنت ملزم بالدفاع عنها شئت أم أبيت، وبأي وسيلة ممكنة، الفنون لا تطلق ناراً ولكنها تصنع محبّةً، وهذا هو سلاحي وخط الدفاع الأخير لديّ.
* أراكَ تُكثِرُ من المنحوتات التي تجسد المرأة/الأنثى، لكنْ في معظمها نجدُ الوجه فقط أو الرأس وحده من دونَ بقية الجسد (إلا فيما ندر مثل التمثال المشغول بأسلوب واقعي لامرأةٍ ريفية بجسدها الكامل ومع كامل ثيابها)… كأنك في الوقت الذي تؤكد فيه حضور المرأة/العقل إنما تؤكد أو تثير التساؤل عن غياب الأنثى/الغواية… ما السّر في ذلك؟
قوامُ تجربتي في العشرين سنة الماضية كان «البورتريه» وكان كافياً لأحمِّله ما أريد من أفكار، لكن الجسد بشكلٍ عام لم يغِبْ عن تجربتي وإنْ كنتُ أتناوله بشكلٍ أقلّ، في الوقت نفسه تلاحظ وجوده مع «البورتريه» في عمل واحد، مرّةً حاملاً ومرّة محمولاً كما في أعمال «ليدا والأوزّة» أو «سقوط إيكاروس» أو «سيزيف» وغيرها. عندما أعمل على الجسد/الأنثى لا أقسِّمُه إلى غواية وإثارة، أو عذراءَ وبتول… أنا أتمثل قولَ محي الدين بن عربي: (كلُّ ما لا يؤنّثْ لا يُعوَّلُ عليه).
* لكن من جهة أخرى نجدُ لديك كثافة في الرموز الحيوانية (الثور، الأسماك، الديك، العقرب، الطيور…الخ) والرموز النباتية (القمح، الشجرة…الخ)… وجميعها مشغولة بطريقة توحي كما لو أن الكائنَ منبثقٌ من ضِلع شخوص المنحوتة والعكس أيضاً… هل في حضور هذه الرموز ما يحيلنا إلى شغفك بالطبيعة الأمّ أم إنها فكرتك المقصودة عن الجانب المظلم/الوحشي/العنيف/البدائي من البشر، أم غير ذلك؟
العناصر التي ذكرت حيوانيةً كانت أم نباتية، أو أحياناً هندسية مثل البيوت والعمائر… رافقت تجربتي منذ البداية، لكنها كانت منفردة في البداية (الحصان، الثور، السمكة…الخ) ثم أصبحت مرافقة للإنسان ونِدّاً له. بعض الأحيان السمكة رقصتْ مع المرأة، ونطحَ الثورُ (زيوس) شجرةَ التفاح وخطفَ «أوروبا» أو أغواها، والسمكة فيما بعد أصبحتْ مركِباً للسوريين الذين عبروا البحر في سلسلةٍ من مجموعة أعمال آخرها «الجورنيكا السورية»!. هذا الأمر ينطبق على العناصر النباتية أيضاً، فعندما بدأ حرْقُ حقول القمح وتصحير الأراضي؛ أتتْ السنبلةُ والشجرةُ إلى تفاصيل منحوتاتي المسمّاة «يا سنديانة» و«أنا شجرة» ردّاً على الهمجية المنفلتة. لاحظ أخيراً أن هذه العناصر على الأغلب كانت خيّرةً عموماً لكنها في مرات قليلة كانت شِرّيرة ومتوحشة عندما اقتضت الضرورة التعبيرية، وقد فعلتُ ذلك بشكلٍ مقصود، في المحصلة هذه الكائنات والعناصر هي جزء من الطبيعة بخيرها وشرّها، بعنفها وسكينتها… شركاؤنا على هذه الأرض ولن نستطيع إغفال العين عنهم بعيداً عن الإسقاطات الرمزية/الأدبية التي لا يحتملها النحت أحياناً، فما أتورط به دائماً هو عناصرُ بصرية تخدم الكتلة.
* تُعدّ الألوانُ والخطوط الرفيعة أو العريضة أو الانسيابية أو القطوعُ الحادة أو اللطيفة جوهر الرسم/التصوير… كيف استعضتَ عنها في منحوتاتك؟ أو لأقل ذلك بطريقة ثانية: كيف وجدت بدائلها وأنت تتعامل مع كتلٍ صخرية بازلتية (عنيدة وصلبة ومتكتّمة لا تعطي روحها بسهولة) … هل عِنادُك/ صلابتك/ رغبتك في الخلود … هي أدواتك الخفية وراء ذلك؟
النحت لديه لغته (أبجديته) في الكتلة، كذلك لدينا سطوحٌ وخطوطٌ ومنحنياتٌ وزوايا يأخذها السطح من الملمس الخشن، الناعم، الصقيل، اللامع، وهناك الظلُّ والنور تمنحهما الإضاءة، أمّا عن البازلت فبعد أكثر من عشرين عاماً من الصُّحبة اليومية معه وبمساعدة الأدوات العديدة المتاحة أصبح ليّناً وصديقاً حنوناً.
أما عن الخلود فإنني لم أفكر به، أريدُ أنْ أعبرَ هذه الحياة إذا أتاح لي الزمن والجسد بأكبر قدر ممكن من الإنتاج/الفاعلية، لا أعتقد أن أعمالي بتواضعها التقني والإبداعي ممكن أن تعْبرَ بي إلى الخلود، ويبقى أن أقول إنَّ الصبرَ والعمل المستمر الدؤوب هما أهم أدوات النحات.
* لفت نظري أنك قمت بورشة سميتَها «صَدْع» مع أطفال «منظمة آمال»… حدّثنا عنها وما أهمية تكرار هذا النوع من الورشات مع الأطفال عموماً، ولماذا هي قليلة أصلاً؟
** «صدع» هي تجربة مع الأطفال المصابين بالتوحّد بدعوة من مؤسسة «آمال» والزميلة المشرفة «روناك أحمد». قمتُ خلالها بنحت مجموعة أعمال، فيما عملَ الأطفال على محاولات نسخها أو تقليدها، ما أثّر بي يومها هو أنه حين عُرضت أعمال الأطفال إلى جوار أعمالي في معرض ختام الورشة؛ أحسستُ أنّني المتوحّد الوحيد في الصالة لأن الأطفال كانوا أشدّ براعة وإبداعاً مني وأتت أعمالهم بتعبيرات مدهشة، أمّا لماذا لم تتكرر هذه النشاطات فالجواب ليس عندي! رغم أن الأمور المالية كانت مجّانية، على ما يبدو «هناك صدعٌ ما!».