كان ذلك قبل أن ينصرم القرن العشرين بثلاث سنوات! أتذكر أنه حصل يوم جمعة بسبب حادثة جرت معي في الطريق حين سألني سائق سيارة الأجرة: أنت مدرّسة يا سيدة؟ فأجبتُ: ما سببُ انطباعك؟ وأنا أدرك بالعمق أن السبب هو المظهر البسيط الذي كنت عليه، لكن إجابته أدهشتني: أراك تحملين كتباً وأنتٍ تجدّين إلى العمل! وقتها أفحمتُه: هل تعمل المدرّسة يوم الجمعة؟ وكان حديثاً مطوّلاً استغرق الطريق من “باب مصلى” إلى آخر خطّ المهاجرين، حيث كنت على موعدٍ مع الأديبة “ألفة الإدلبي” التي تأكد السائق أنها نفسها كاتبة المسلسل التلفزيوني” بسمة الحزن” قلت: نعم! المسلسل عن روايتها “دمشق يا بسمة الحزن” وأنا مندهشة أنه عرف اسم المؤلفة متجاوزاً النجوم الذين أدّوا الأدوار وهم بحكم الوعي العام والثقافة أكثر جماهيريةً من المؤلف أو كاتب السيناريو…
أودعني السائق خلف آخر خط المهاجرين، صعوداً باتجاه قاسيون، حيث تلبّثتُ قليلاً قبل أن أقرع الباب وقد زاغت مني نفسي إذ كيف سألقى كاتبةً في الخامسة والثمانين من عمرها، وبتوارد الخواطر التي لم يَسبر سرّها أحد، تذكرت الكاتب “مراد السباعي” المولود أيضاً عام 1912 وخصوصية العلاقة التي ربطتني به، ترى كيف ستكون الكاتبة التي عرفتها في روايتها الشهيرة وأيّ أسئلة يمكن طرحُها عليها، هي التي فرضت نفسها بقوة في عالم الأدب المعاصر، وتُرجمت معظم قصصها إلى ست لغات وحين يُذكر اسمها الكامل يُنسب إلى “عمر باشا الإدلبي”، لكن طيفها الإنساني في جوّ الكتّاب يكاد يشبه نفحة طيب من بساتين الغوطة، وإذ فتحت الباب تضوعت رائحة “المانوليا” الزهرة التي كتبَت عنها شيئاً ما في مؤلفاتها!
بدأت أرتّب الانطباعات حتى لا يهرب شيء منها: السيدة بالغة الرشاقة والأناقة، شعرها قصير مسرّح بلا اصطناع أي تسريحة، تدعوني إلى إحدى أرائك الغرفة ذات النافذة المفتوحة على قاسيون وتقول إنها ستُحضر القهوة ما دمنا سنشربها في وقت ما، أجيل البصر حولي فأرى سيوفاً معلقة على الجدران فأتخيل أنها تحفٌ فضية، قبل أن تعود وهي تحمل صينية القهوة فأهتف بدهشة: هذه الفناجين لم أرها منذ عقود، فتضحك وتضع الصينية كأنها تمارس طقساً لا غنى عنه: أين سترين مثلها؟ إنها في مطبخي منذ سنوات الصبا، أما هذه السيوف الداغستانية فقد ورثتها عن جدي لأمي!
نسيت تفاصيل لقائنا في برنامج “نهر و روافد” لكن رائحة المانوليا مازالت على أصابعي، رغم أنني ما رأيت بعدها مضيفتي التي رحلت عام 2007.
نهلة سوسو
121 المشاركات