وهم العقل.. محطات الخيال.. أسئلة في الترجمة والنقد والواقعية
تشرين- د.رحيم هادي الشمخي:
-1-
هل هي مصادفة أن أحداً لم يعد يذكر الواقعية أو يتذكرها في الأقل؟ أليس الخيال والوهم والإيهام والتغريب والرؤية في الصور المفترضة المحلقة فوق تضاريس المنطق واقعية حقيقية، مادامت الواقعية هي الرؤية الذاتية في الواقع من قبل ومن بعد، مهما كانت تلك الرؤية بعيدة، وقريبة عن الواقع في آن؟ أم أنا أتوهم هذا كله؟ فقبل أيام اضطررت أن أقول لصاحبي محتداً:
– أنا لا أحفل بما وقع بصورته الظاهرة ولا أحفل أيضاً (بالممكن الوقوع) لا أنقل أو أحاكي أو أعبر عن فرد محتجاً.
قلت:
– بلى، مادمت أرى في الواقع وهماً، وفي الوهم واقعاً أكثر حضوراً من الواقع نفسه، وتساءلت في نفسي: أهو وهم الخيال؟
-2-
أنا أكره أن أقرأ كتاباً مترجماً، ولا أملك لغة غير العربية وأنا مضطر باستمرار لمعاناة ما أكره، وذات يوم قيل للشاعر الداغستاني (رسول حمزاتوف):
– قرأنا قصيدتك الجديدة:
فسأل: بلغتي؟
قالوا: مترجمة.
وسأل: إلى لغتكم؟
أجابوا: لا بالعربية عن الفرنسية.
فضحك وقال: أنتم واهمون، فما قرأتموه هو ما تبقى من قليل قصيدتي، واستمر من خلال ضحكته نفسها: «أنا أشبّه الترجمة بظهر السجادة والترجمة الثانية هي ظهر الظهر، فهل تعرفون ماذا قرأتم من قصيدتي؟ أهو وهم اللغة؟
-3-
قال صاحبي: حين أقرأ لنقادنا العرب أرى بعضهم قصيراً يستعرض نفسه بثوب طويل يضيع فيه كله، وغيره أراه طويلاً يستعرض نفسه بثوب قصير لا يصل ركبته، أراهم في ضفة النهر، والكتاب المنقود في الضفة الأخرى، ولا جسور حقيقية لديهم إلى قرائهم، قلت له: ماذا سيحصل لو كفّ النقّاد واختفى النقد؟ هل يأخذ الكتّاب متاهاتهم، أم تخطئ أيدي الكتّاب طرقها إلى كتبهم، أم….؟ ترى هل هو وهم أيضاً؟.
لم يحدث أن صدر كتاب أدبي -لدينا نحن الأدباء والكتّاب العرب- وأحدث ضجة، فعلى طول وعرض الساحة الأدبية، وخلال الفترات الأدبية كلها، لم نعش سعادة مثل هذا الحدث كما يحصل دائماً في أماكن أخرى، بخاصة في أوروبا وأمريكا، وبالرغم من معرفتنا لدوافع وخفايا وأساليب أحداث مثل تلك (الضجات) حول بعض الكتب الصادرة هناك وتحفظنا حولها، غير أنها كانت وسيلة في ترسيخ اتجاهات أدبية أو احتضانها أو التنبيه إلى اتجاه يبدأ ويمتد ويكون أكثر شمولاً، ليس توزيع الكتب فقط، بل وملامحه وقناعاته الفنية، حتى يصبح بعضها منطلقاً لمدرسة، ويؤثر قيماً تذويقية تسهم في تشكيل سلطة الذوق أو سيادته عند القراء، فما السبب؟.
بالتأكيد عرفت ساحتنا الأدبية أعمالاً نجحت في طرح امتيازها الفني والفكري، ونجح بعضها عند القرّاء لكنها لم تحدث تلك الضجة، فمن تراه يحدثها؟.. أهو حديث القرّاء العام، أم حديث الأدباء؟ أتراه أحد مظاهر قصور النقد في توجهاته الجماهيرية ووظائفه تجاه القرّاء؟ ولماذا لم يستطع النقد بلوغ مكانة الكاشف عن هذا العمل أو ذاك ويسلط الضوء عليه؟ ولماذا لم يبن جسر التواصل بينه وبين القرّاء حد إعطائه الثقة كاملة والنظر إلى الأعمال من خلال عينيه الفنيتين؟.
والسؤال الأكبر هو: هل تأكدنا من أن القراء يقرؤون فعلاً نقد النقّاد بما يمكّنهم من امتلاك أداة التأثير تلك في قرائهم؟