الحداثة وغريزة التّجاوز.. حين تنكرت الحداثة لسرديتها المُؤسِّسة
تشرين-ادريس هاني:
التجاوز نزعة إنسانية، بل إن كان لا بدّ من تعريف قويم للإنسان، فالأَوْلى أن نعرفه بوصفه كائناً تجاوزياً. وحده الإنسان يتجاوز تاريخه، وحداثته، بل وهويته، بل وأنطولوجياه بعد أن كان وحده الكائن الذي يتفكّر وجوده ويقلق حياله.
وعلى هذا الأساس يتعيّن إدراك أفق التفكير البشري، بل إدراك مضاعفات سقوط الإنسان، باعتبار أنّ التجاوز له مظهران: إمّا تجاوز في سياق قوس الصعود، وإمّا تجاوز في سياق قوس النزول. في الأول يتجاوز حدود ضعفه وتخلفه، وفي الثاني يتجاوز مكتسباته.
أن نتحدّث عن الحداثة وشروطها في تاريخ كائن تجاوزي، تحصيل حاصل. فهذا الكائن له ميل غريزي أكثر مما هو عقلي، لتجاوز كل شروطه الاجتماعية والتّاريخية. لا يفعل العقل أكثر من الاستجابة لشروط هذا التّحوّل، حيث يملك الإنسان تجاوز كل ما يعترض طريقه نحو التجاوز، بما في ذلك العقل.
تحقق المنعطف الكبير للحداثة في الغرب، وبذلك اكتسبت الجغرافيا الغربية دلالتها التّاريخية. لكن الحداثة لم تقوّض غريزة التجاوز، وهي غريزة أكثر حضوراً وإلحاحية من العقل نفسه. فالتنوير لم يجعل الغرب «بالجملة» خاضعاً للعقل، بل قُصاراه أن خضع «في الجملة» للعقل.
لقد كان الصراع الحاد إذاً في صلب الحداثة بين داعي العقل وداعي غريزة التّجاوز، وهذا ما فجّر النقاش الملتبس حول الحرية، فالعقل يميل نحو الضّبط، والحرية تميل نحو التجاوز. هذا يتصرّف بشرط، وذاك يتصرف لا بشرط أو بشرط لا، وهكذا احتدم النزاع بين الحداثة وما بعد الحداثة، بين عقل الإنسان الحديث وغريزته.
لم يعد ثمّة ما هو بديهي في مطلب الحداثة، فلقد شاكسته ما بعد الحداثة أيّما مشاكسة، في تكتيك يقضم يقينيات الحداثة الكبرى، لا شيء في تقدير ما بعد الحداثة من الحداثة بات متعاليّاً عن النّقاش، كل شيء ها هنا قابل للمراجعة بما في ذلك التنوير، إلى حدّ اكتشاف ظلمات التنوير ومكامن خلله.
أورثت الحداثة حاملها الجُبن، وهي الخاصية التي استغلتها ما بعد الحداثة لتعلن ضرورة التجاوز قبل فوات الأوان. إنّ الحداثة ومن خلال أدواتها باتت عاجزة عن الدّفاع عن قيمها، إنّها تتعرّض للاختزال الأقصى، فالذين يسعون لتجاوزها اليوم، ليسوا فقط من يبحثون عن شروط جديدة لحداثة فائقة، بل هي وللأسباب نفسها باتت متجاوزة من قبل من يسعى للتحرر من قيمها وشروطها التي تعيق انتشار الهمجية والانقلاب على الحضارة الإنسانية.
الحروب التي نشهدها اليوم، وتلك التي تشتعل في الشرق الأوسط اليوم، هي المثال الأبرز على أنّ الحداثة تأكل قيمها منذ تعسكرت، ومنذ باتت عرضة لتجاوز مكتسباتها. ترى، هل في وسعنا الحديث عن قيم واضحة للحداثة بعد انتهاء حصاد العنف ضدّ المعذبين في الأرض، وحيث قيم الحداثة الكبرى جاءت لإنصافهم؟
إنّ الرهان على الهمجية للدفاع عن الحضارة، هو الشكل المتبقي من الخداع اللاّمُقنع. إن الشيء الأكثر عرضة للتهديد اليوم هو مصير تلك القيم التي تعلقت عليها الآمال، وبها يقوم الاستقرار الدولي والعلائق الدولية وأسس التعايش والسلام العالمي.
تعيش الحداثة اليوم على حافّة الانهيار نتيجة فائض القوة التقنية وارتداداتها على داعي العقل، ونتيجة صدام الغريزة مع العقل. إنّ الميركونتيليين كانوا قد أطلقوا رصاصة الرحمة على ضمير الحداثة، وتقويض ضمانتها التي تمثّلت في ضمانتين: الأولى، العقل، وهذا مما قضمه فعل التجاوز، والثانية هي نزع الحداثة من يوتوبياها، حين باتت حداثة تقنية، أكثر وفاء للنزعة الميركونتيلية وأقل وفاء ليوتوبيا توماس مور. المقارنة هنا بين نزعة عبادة الذّهب، ونزعة التداني بقيمته في مجتمع محكوم بداعي العقل.
ارتدادات الحداثة على نفسها مما تغاضى عنه مؤرّخو أفكارها، ولعلّ المستبعد في كل تاريخها هو آدابها وسرديتها التخييلية، منذ ارتسمت خطوط التّقدّم والنّموّ في مراحل يحدّها منسوب الاستهلاك كمؤشّر. لم يكن فوكوياما عشية انهيار منظومة الكوميكون بدعاً في وضع حدّ لتاريخ الأمم، فلقد سبقه بكثير آخرون رسموا أفقاً وحيداً للنموّ، ومراحل لا حِوَل عنها كما فعل روستو. إنّ لتاريخ الاقتصاد السياسي الحديث رؤية أخرى عن الحداثة، قلّما استحضرها من آثروا اختزال النزاع في صدام ثنوي بين التنوير والظلامية. ترى، أين يتم تصنيف هذا الذي يحدث اليوم، أفي الحداثة أم الهمجية؟
وعليه، لا يمكن استنقاذ الحداثة إلاّ بالعودة إلى نصوصها الأصلية، إلى سردياتها المؤسسة، إلى تراثها التخييلي الذي سحقته الميركونيتيلية في مراحلها المتقدّمة التي أسفرت عن الوجه الإمبريالي لغرب آخر، كان يسكن بهمجيته القديمة بين ثنايا الحداثة، تلك الجيوب الظلامية استطاعت أن توظّف مكتسبات الحداثة في نواياها الإمبريالية ومشاريعها الهيمنية، تلك الهمجية التي آثرت أن تلوذ كخلية نائمة في أحشاء غرب تناقضي، وحين فقدت الحداثة خيالها، أصبحت مكسباً في يد القرصان.
كاتب من المغرب العربي