ماكرون وجولة انتخابات ثانية تستنسخ الأولى.. الفرنسيون من النقيض إلى النقيض.. افتراق جذري عن فرنسا الحالية والتداعيات ستنسحب أوروبياً

تشرين – مها سلطان:

مسبقاً، تبدو الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية المبكرة في فرنسا، التي جرت اليوم الأحد، معلومة النتائج، مع عدم توقع مفاجآت، لناحية أن النتائج لن تكون مختلفة بصورة فارقة عن الجولة الأولى التي جرت قبل أسبوع، وحقق فيها اليمين المتطرف فوزاً ساحقاً.. وأيضاً لناحية أن «الجبهة الجمهورية» التي شكلها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتكون حاجز صد وردّ، يشق فوز اليمين المتطرف، ويشتته، لم تحقق الهدف المطلوب، فالوقت لم يسعفها أبداً، حيث إن أسبوعاً واحداً فقط فصل بين الجولتين.

أياً تكن نتائج الانتخابات فإن المتوقع لفرنسا أن تغرق في حالة توتر وفوضى قد تنسحب خارجياً على الاتحاد

حتى «حالة العصيان» التي تحدث عنها الإعلام الفرنسي، ومفادها أن عشرات المسؤولين أعلنوا رسمياً رفضهم تنفيذ أوامر الوزراء الذين سيعينهم اليمين المتطرف (المتمثل في التجمع الوطني).. حتى هذه الحالة لن تجدي نفعاً وسيكون الرئيس ماكرون خاسراً في كل الأحوال، وستكون السنوات الثلاث المتبقية من ولايته الرئاسية كارثة، ليس على ماكرون والوسط الفرنسي فقط، بل على مجمل البلاد التي ستغرق في حالة توتر وفوضى بين رئيس وسطي ويمين متطرف مسيطر على كل مقاليد السلطة والقرار.. وقد تكون حالة التوتر والفوضى من الاتساع والعمق بما ينعكس خطراً كبيراً لا يهدد فرنسا فقط، بل سينسحب التهديد على الاتحاد الأوروبي نفسه.. فهناك من يعتقد أن نتائج الانتخابات الفرنسية الحالية ستقود في نهاية المطاف، وقبل نهاية (جمهورية اليمين المتطرف/الجمهورية السادسة) إلى انسحاب فرنسا من الاتحاد الأوروبي على غرار بريطانيا.
قبل هذا العصيان كانت «الجبهة الشعبية الجديدة» المنتمية لتيار اليسار، وتحالف من أحزاب الوسط المؤيدة لماكرون، أعلنت أنها ستسحب أكثر من 200 مرشح من منافسات الجولة الثانية، لتعزيز فرص فوز المرشحين البارزين الذين يتنافسون ضد حزب التجمع الوطني في مناطقهم.
لكن هذا الإجراء – وفق قراءات المراقبين والمحللين- لن يكون له تأثير في ظل الاكتساح الذي حققه اليمين المتطرف في الجولة الأولى.
علماً أن هذا التكتيك «الجبهة الجمهورية والعصيان» سبق ونجح في إسقاط زعيم حزب التجمع الوطني جان ماري لوبن، والد مارين لوبن، الزعيمة الحالية للحزب، في الانتخابات الرئاسية لعام 2002 بعدما نجح – في ما يشبه الزلزال السياسي حينها – في العبور إلى الجولة الثانية، ما استدعى توافق الأحزاب لدعم جاك شيراك، إلا أن هذا النجاح لم يتحقق في تجارب لاحقة.

لنوضح أكثر
لنفهم ما وصلت إليه قوة اليمين المتطرف في فرنسا، نعرض تصريحات مارين لوبن، وهي الزعيمة الرئيسية لهذه القوة، مارين ردت على إعلان المسؤولين آنف الذكر بالقول: «كل غير الراضين يمكنهم الاستقالة».. هكذا، بهذه البساطة.
أما رئيس حزب التجمع الوطني، جوردان بارديلا «28 عاماً»، المرشح لتولي رئاسة الحكومة بعد الانتخابات، فقد قال إنه سيرفض المنصب إذا لم يفز هو وحلفاؤه معاً بأغلبية مطلقة لا تقل عن 289 مقعداً، مشدداً على أنه يريد تفويضاً واضحاً، كاملاً ومتفرداً، أي سلطة مطلقة لاتخاذ القرارات وتوجيه السياسات داخلياً وخارجياً.
هذا يعني أن فرنسا بوجهها الحالي ستختلف كلياً، فهي مع اليمين المتطرف ستنتقل من النقيض إلى النقيض، وعلى كل المستويات والسياسات، وحسب وسائل إعلام فرنسية فإنه نادراً ما أثارت انتخابات تشريعية في فرنسا قدراً مماثلاً من القلق لدى البعض، والأمل لدى آخرين وهم أولئك الذين يريدون منح اليمين المتطرف إمكانية الحكم من خلال التصويت لحزب التجمع الوطني، وفي حال تولى بارديلا رئاسة الحكومة، ستكون هذه المرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية تحكم فيها حكومة منبثقة من اليمين المتطرف فرنسا.

ماكرون تسبب بنفور الفرنسيين منه بصورة كارثية واتجاههم بالتالي إلى معاقبته بصورة كلية ونهائية عبر كف يده عن السلطة والقرار.. لقد قامر وخسر وهو يتحمل كامل المسؤولية

الجمهورية السادسة
الأغلبية داخل فرنسا وخارجها، تحمّل ماكرون المسؤولية عن هذا الوضع، ليس فقط بفعل مقامرته بالدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة، وهو يعلم أن نسبة نجاحه فيها تقارب الصفر، بل لأنه تسبب بنفور الفرنسيين منه بصورة كارثية، واتجاههم بالتالي إلى معاقبته بصورة كلية ونهائية عبر كف يده عن السلطة والقرار، عبر التصويت للنقيض تماماً، أي اليمين المتطرف.
صحيفة «تيلغراف» تحدثت في مقال لها اليوم عن انهيار الجمهورية الفرنسية الخامسة، وأن فرنسا تستعد لموجة اضطرابات، ولكن كيف وصل الأمر إلى هذا الحد؟.. تتساءل الصحيفة.
«تلغراف» انتقدت ماكرون على دعوته لانتخابات مبكرة ووصفها بأنها مقامرة ومتهورة كشفت هشاشة النظام في بلاده، الذي اعتمد في بقائه على عوامل تاريخية.
وفي عودة تاريخية ذكّرت الصحيفة بالجمهوريات الفرنسية السابقة بدءاً من الأولى «1792 خلال الثورة الفرنسية واستمرت حتى 1804»، ثم الجمهورية الثانية «1848 – 1851»، والثالثة «1870- 1942»، والرابعة «1946-1958»، والجمهورية الخامسة/جمهورية شارل ديغول 1958، وهي نظام الحكم الجمهوري السائد حتى الآن.
ورغم أن الأساس الذي قامت عليه السياسة الفرنسية هو الصراع الدائم بين الحرية والنظام، والذي تجلت سماته في تياري اليسار واليمين، ورغم أن الصراع كان عنيفاً في بعض الأحيان- كما تضيف الصحيفة البريطانية – فإن الوضع السياسي كان مستقراً.
.. حتى جاء ماكرون، ليفتح الباب مجدداً أمام اليمين المتطرف بكل سياساته التي تنطوي في كثير منها على مخاطر قد لا تحمد عقباها، وهذا ليس دفاعاً عن ماكرون والوسط الفرنسي، بقدر ما هو توقعات متشائمة لحالة انتقال جذرية/قسرية من أقصى الوسط إلى أقصى اليمين.

السيناريوهات المحتملة
بكل الأحوال، لنعرض ما يتم تداوله من سيناريوهات محتملة لما بعد هذه الجولة، وفق خبراء دستوريين ومحللين سياسيين:

إذا فاز التجمع الوطني وحلفاؤه بصورة غالبة حاسمة فستكون المرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية التي تحكم فيها حكومة منبثقة من اليمين التطرف فرنسا

أولاً، في حال اقتراب حزب التجمع الوطني اليميني من أغلبية 289 نائباً في الجمعية الوطنية (البرلمان) أو حصوله عليها، سيصبح جوردان بارديلا، رئيس الحزب، أصغر رئيس حكومة فرنسية سناً في التاريخ.
ثانياً، في حال حصول الحزب على نسبة معقولة، بحدود حوالي 270 مقعداً، قد يسمح لجوردان بارديلا بالبحث عن دعم في صفوف الجمهوريين وأن يصبح رئيساً للوزراء.
ثالثاً، في حال حصل الحزب على أغلبية محدودة (حوالي 250 مقعداً) فإن ماكرون قد يستند إلى المادة الثامنة من الدستور الفرنسي التي تنص على أن الرئيس يُعين رئيس الوزراء، لكنها لا تحدد المعايير التي يجب أن يستند إليها، ومن المتوقع أن يعرض ماكرون المنصب على الكتلة البرلمانية الفائزة – والتي تشير استطلاعات الرأي والجولة الأولى من التصويت إلى أنها ستكون حزب التجمع الوطني.
رابعاً، إذا كان بارديلا يقول إنه سيرفض المنصب إذا لم يفز هو وحلفاؤه بأغلبية مطلقة، وإذا وصل مسار الجولة الحالية إلى هذه النقطة فإن الخيارات المتاحة تتمثل في:
– بما أن الدستور لا ينص على كيفية اختيار الرئيس لرئيس الوزراء، فقد يحاول ماكرون جمع تحالف مناهض للتجمع الوطني وعرض المنصب على حزب آخر، أو شخص ليست له انتماءات سياسية.
– هناك خيار آخر يشمل محاولة تشكيل تحالف بين الأحزاب الرئيسية، وعلى الرغم أن هذا التحالف لا وجود له حالياً ولكن ماكرون يحث الأحزاب على الاتحاد معاً لإبعاد اليمين المتطرف.
– عرض منصب رئيس الوزراء على اليسار، إذا ظهر تحالف يضم أقصى اليسار، يمكن عندها محاولة تشكيل حكومة أقلية.
بكل الأحوال فإن هذه الانتخابات، وأياً كانت نتائجها، ستكون علامة افتراق جذرية مع فرنسا- ماكرون الحالية، وربما في المرحلة المقبلة ستتركز الأنظار على فرنسا أكثر من غيرها.. لننتظر ونرَ.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار