انقلاب صورة المشهد.. وجوب تصعيد الوعي واليقظة
تشرين- ادريس هاني:
«طوفان الأقصى» هو النتيجة الموضوعية التي حبل بها تعقيد الواقع الإقليمي، التمادي في العدوان، يتميّز النشاط التعقيدي البنيوي بتجليات تبدو في مظهرها التّاريخي مفارقة، لكنها هي وليدة منطق داخلي يتجاوز تمنّيات الأفراد والفاعلين، لأنّ مسارات تنامي مُخرجات الأزمة، لا يحددها الفاعل مهما بدا كونه حرّاً وطليعياً في تحرره، لأنّ تخارج البنية، أي الكاشف عن لحظة الانفراج التّاريخي، يتحدد بالشراكة بين الذّاتي والموضوعي، بين الفاعل وبنية الفعل، بين الضرورة والحرّية.
«طوفان الأقصى» هو الاستجابة التي اقتضاها التعقيد بعد 13 عاماً من العدوان على دمشق، في حرب كان لا بدّ من أن تكون لها مخرجات وآثار على الصعيد الإقليمي والدّولي. الصدام الذي دام لسنوات عجاف، كان لا بدّ من أن ينتهي باشتعال الجبهة المحورية في الصراع. وبالفعل، إنّ أحلام اليقظة في ربيع الوهم، أضرّت أيما ضرر بالقضية الفلسطينية، لأنّها حشرتها في المنسيّ من القضايا الاستراتيجية، بل جعلت التفكير فيها قضية مثيرة للغرابة. ولمّا دعوت بعض الفاعلين يوماً لإحياء مناسبة فلسطينية وطنية، قال بعضهم: أووو، إنها قضية قديمة، قضية منسية، تستحق أن يتذكرها الإنسان. ذلك لأنني كنت أقصد إقحام فاعلين جدد غير الفاعلين الذين ملّت منهم البيئة من كثرة المزايدات والتكرار والتمسرح والأحقاد.
إنّ الربيع ومن راهن عليه، كان سيُدخل القضية الفلسطينية في نسيان أنطولوجي لا رجعة فيه. فلقد انتشرت يومها بدعة أنّ القضية الفلسطينية ليست أولويتنا، وكان الطّواف على منبر «إيبّاك» امتيازاً لقادة الربيع وحلفائهم، بل بات امتيازاً لسراق الله الذين على إثره انعقدت صفقاتهم وكانوا رهاناً لما سيأتي من خوارم السياسة. ربما اليوم يسعى هذا الرّهط لتعويض زمن الصفقات بمزيد من الهيّاج.
كنّا ندرك منذ ذلك الحين، بأنّ أي موقف عدواني من سورية نهايته تدشين عصر الشّرق الأوسط الجديد، دفعت الانتهازية الكثيرين إلى استغفال قواعد الاشتباك، المذاكرة من خلف قواعد التّاريخ، فتحالفوا مع الـ(نّاتو)، وأنتجوا خطاباً غير قابل للامحاء. الانتهازية كلّفتنا 13 عاماً من العدوان، وجمهور عربي تربّى على الدّعاية، وكنا يومها نعرف مسار هذا الانقلاب، ونعرف أنّه حين تفشل يوماً كل خطط الظلامية، سوف لن يكلف ذلك سوى زحفاً منهم على البطون وابتسامات صفراء.
كُلفة الانتهازية كبيرة، واليوم على طلائع الكفاح، أن يواصلوا نضالهم النقي، المستقيم، الذي لا اعوجاج فيه، لا قيمة لكل هذه الفرجة السياسوية، هناك الشموخ، الحفاظ على الاستقامة، لا انحناء، الفرسان لا ينحنون للأوباش، للُّقطاء، لأصحاب مئة وجه مقرف في مسيرة الكفاح، لمن يمارسون الكفاح بالمراسلة والزعيق. الفرسان ومن يقبضون على جمر الكفاح الوطني، فلقد انتصرت الحقيقة على العبث، النضال على التناضل الاستهلاكي: الهزيمة المقنّعة. اليوم وحين يشتدّ النزال، لا ينفع زعيق الجبناء، ومن ليس لهم من صولة الكفاح والمواجهة سوى الضجيج. فلتكن معركة الوعي صادقة صدق معركة النّار، لا لبس ولا تلوّي ولا مغالطة. إنّ الوعي الزائف وملء الدماغ بغير النافع هو تشويش على الكفاح الوطني.
إنّ انقلاب صورة المشهد لا يعني انتصاراً على سنوات المغالطة، بل إنّ المغالطة تكتسب لها أيضاً مناعة، وتسكن في بلازما الخلية النافعة، تشارك الأنزيمات غذاءها، وتتربّص بالنّسق، لكي لا يكون نقيّاً صادحاً بالمعقول. ستتأثر البنية بكل هذا التّعسف، لأنّ آثارها مستمرة، وخدوشها تحتفظ بتسمم المراحل السابقة. تنصبّ حركة الوعي على هذه الظواهر التي تستغفل المراقب، فمرحلة اندحار العدوان انتهت، اليوم، هناك مرحلة التّضليل، نحن نعرفهم جيداً ونعرف صنيعهم وكلّ أساليبهم، وكلٌّ سيدفع ثمن التّآمر ذاتيّاً وموضوعيّاً، لا أحد سينجيهم من قبضة الساموراي لحظة الثّأر الأعظم، حيث تلك الألسن الطّولى ستُقطع حتماً.