أمريكا والنظر إلى «بوتين وشي وكيم».. عندما يكون الحال «ليس في الإمكان أفضل مما كان»
تشرين – د. رحيم هادي الشمخي:
لأن الترجمة عادة، خصوصاً السياسية، فيها الكثير من الدبلوماسية والكياسة واللياقة، وهذا أمر مطلوب باعتبارها تتعامل مع سياسيين (زعماء، رؤساء، مسؤولين..الخ) كل كلمة لهم محسوبة، ولها حساباتها، أي ما بعدها، ولها حساسيتها، وبما يتطلب نقلها أو تحسينها أو تجميلها بأقل قدر من إثارة للحساسيات والتداعيات السلبية، علماً أنه ليس في كل مرة توفق الترجمة في ذلك، ربما لأننا في أغلبنا نعلم المُضمر والمُعلن ونعلم القصد وراء كل كلمة وتصريح، وحتى عندما يقوم السياسيون أنفسهم بتجميل ألفاظهم إلا أن المعنى الأساسي لها يكون واضحاً جداً، لكن بالمجمل يختار الجميع التعامل مع ذلك المُجمّل من الألفاظ منعاً لإثارة المتاعب والأزمات..
علماً أن هناك سياسيين ليسوا في مراكز قرار، أو هم بعيدون عنه مرحلياً أو لبعض الوقت، لكن تصريحاتهم تأخذ كامل الأهمية والتأثير خصوصاً إذا ما كانت صادرة في سياق أهم انتخابات على مستوى العالم، ونقصد هنا الانتخابات الرئاسية الأميركية وما يصدر عن كل من مرشحيها الأساسيين، الرئيس الحالي جو بايدن، ومنافسه دونالد ترامب. وهذا الثاني غني جداً عن التعريف هو وتصريحاته التي غالباً ما تكون نارية، باعتباره يقول (الأشياء على علاتها) دون تحسين أو تجميل… لكن الترجمة تأتي هنا لتحسن وتجمّل، وحتى في حال حسنّها ترامب وجمّلها إلا أنها تستمر نارية، لتستفز الجميع حتى في أوساط جزء كبير من المؤيدين لترامب.
ولأن ترامب يكاد يكون فوزه محسوماً إلا إذا ما حدثت مفاجآت (فما زال هناك خمسة أشهر تفصلنا عن موعد الانتخابات) فإن كل كلمة يطلقها يتم التركيز عليها باعتبارها تعطي صورة عما ستكون عليه السياسات الأميركية في حال فوزه.
وفق ما سبق لنعيد قراءة أحدث تصريحات ترامب (الخميس الماضي) ووضعها في معناها الأساسي من دون تحسين ولا تجميل.
ترامب وخلال تجمع انتخابي في برونكس/نيويورك، هاجم منافسه بايدن، وخاطبه قائلاً: أنظر إلى بوتين وكيم وشي، كلهم يلعبون الأدوار القيادية/الأولى عالمياً، سواء أعجبك ذلك أم لا (والمقصود هنا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الصيني شي جين بينغ، وزعيم كوريا الديمقراطية كيم جونغ أون).
وأضاف ترامب: لقد فقدنا احترام العالم أجمع. كنا الدولة الأكثر احتراماً في العالم قبل أربع سنوات، والآن يضحكون علينا، لقد أصبحنا مزحة.
وتابع ترامب إنه إذا ما تم انتخابه لولاية ثانية فإنه سيقود الولايات المتحدة إلى موقف سيحترمها فيه العالم مرة أخرى، وأن ولايته ستكون «بداية تاريخية جديدة».
لنعيد القراءة
– عندما يتحدث ترامب مقارناً بايدن بكل من بوتين وشي وكيم، وأنهم عالمياً في الصفوف الأولى، فهذا يعني أن الولايات المتحدة تخلفت إلى المرتبة الرابعة، وأنها لم تعد مُقرِرَاً عالمياً وحيداً، وفي يدها تقبض على مصائر الدول والشعوب. لكن هذه المسؤولية لا يتحملها بايدن لوحدها، وإذا ما عدنا إلى مسألة العزلة الأميركية وتراجع الحضور الأميركي عالمياً فهو بدأ بصورته العملية العميقة في عهد ترامب نفسه صاحب «أميركا أولاً» ونهج أن على الجميع أن يدفع (الحلفاء قبل الخصوم) في سبيل الرضى الأميركي. علماً أن الجميع يدفع، أو كان يدفع، سواء من خزينته، أو من استقراره. ولكن من دون إعلان. ثم جاء ترامب وأراد أن يكون هذا الدفع، وبعبارة أدق الرضوخ العالمي للمشيئة الأميركية، أكثر صخباً، مطالباً أن يتم الدفع والرضوخ بأعلى مستوى من المذلة والمهانة.
وإذا ما عدنا إلى ما قبل ترامب فإن مكانة أميركا بدأت بالتراجع منذ بداية هذه الألفية مع غزو العراق 2003 وما ارتكبته بعدها من حروب واضطرابات وافتعال توترات وأزمات ضد الجميع، ما جعل كل الدول تفكر بالأسوأ وتسعى لبناء قوتها وتعزيز دفاعاتها بعيداً عن أميركا وتهديداتها. لقد تحولت أميركا تهديداً عالمياً حتى لحلفائها.. ولا ننسى هنا سياقات التطور التاريخي على مستوى تراجع قوى وصعود أخرى. أميركا نفسها صعدت على حساب القوة البريطانية (والقوى المهزومة) ما بعد الحرب العالمية الثانية في أربعينيات القرن الماضي.
– عندما يتحدث ترامب عن الاحترام العالمي الذي فقدته أميركا، فهو لا يعني «الاحترام» بالتعبير الحقيقي للكلمة. أميركا لم تكن تحظى يوماً باحترام عالمي ولم تكن الدولة الأكثر احتراماً كما يقول، بل كانت الأكثر تخويفاً وترهيباً، والعالم كان يخشاها ولا يحترمها. يخشى حروبها وما تجره من شرور لا تستثني أحداً، وهو ما دفع القوى الصاعدة لتتعاون وتتكاتف بمواجهة الترهيب الأميركي خصوصاً أن لديها جميع الإمكانيات والمقومات لتفوز وتزيح هذا الترهيب.
أيضاً هذا لم يبدأ مع بايدن، فالحروب وافتعال الأزمات والاضطرابات هي سياسة أميركية ثابتة منذ التأسيس، وعليها تقوم القوة الأميركية والسيطرة على القرار العالمي، والتاريخ شاهد قائم ولا يزال. أما الذي تغير مع بايدن فهو أنه ورث غباء السياسات الأميركية طوال عقدين ماضيين (ومنها سياسات ترامب نفسه) لناحية عدم القدرة على قراءة التطورات الدولية بعيداً عن العنجهية والسياسات الفوقية، ووهم أن القوة الأميركية لا تُصد ولا تُرد.
– عندما يقول ترامب (أنهم يضحكون علينا، لقد أصبحنا مزحة) فهذا يعني أن الآخرين (أي القوى الصاعدة) يفركون راحات أيديهم، بابتسامات عريضة، استعداداً لتسلم القيادة العالمية، ويسخرون من الولايات المتحدة العاجزة عن استعادة النفوذ والتحكم كما كان الحال طوال عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية. ربما أراد ترامب أن يقول (لقد تحولنا إلى مسخرة) بدل تعبير «مزحة» لكنه اختار التعبير الثاني، وربما الترجمة هي ما نقلت ما قاله ترامب وفق تعبير «مزحة» وليس «مسخرة».
– عندما يقول ترامب إنه سيعيد لأميركا احترامها في حال فوزه على بايدن، فهذا يعني أنه سيعيدها لتكون أكثر إرهاباً ودموية على القاعدة نفسها «أميركا أولاً». وعندما يقول إن عهده سيكون «بداية تاريخية جديدة» فهذا يعني أن على العالم أن يتحضر للمرحلة الأكثر حروباً، وربما لحرب عالمية ثالثة، حيث إن العالم بالأساس يشهد حربين كبيرتين (أوكرانيا وقطاع غزة) وحرباً محتملة (تايوان).. وفي حال عاد ترامب فإن إحداها ستقود بلا شك إلى حرب عالمية ثالثة.
لا شك أن ترامب يُسجل تاريخياً على أنه أكثر الرؤساء (والسياسيين عموماً) سلاطة في اللسان، وفي الألفاظ غير الدبلوماسية، وفي تنفير الجميع من الولايات المتحدة، وإبعادهم عنها، ولكن هل يستطيع أن يتبع السياسات ذاتها في حال عودته إلى البيت الأبيض، ألم يَدُر التاريخ دورة كاملة خلال السنوات الأربع الماضية وبما لم يعد معه نافعاً أن يبقى ترامب على سلاطة اللسان نفسها، أو أن يكمل ما بدأه في ولايته الأولى؟
بكل الأحوال، ليس هذا موضوع مقالنا، بقدر ما هو التركيز على مسألة أن السياسيين الأميركيين هم الأعلم بما آل إليه حال بلادهم، وأنهم «إلا قليلاً» وسيتجاوزهم التاريخ لمصلحة القوى الصاعدة من الخصوم والحلفاء على السواء.. وعندما يخاطب ترامب بايدن ويقول له: «أنظر إلى بوتين وشي وكيم» فهذا خطاب لكل أميركا وليس لبايدن فقط ، وربما هذا ما أراده ترامب فعلاً، أي تخويف الأميركيين من مستقبل قاتم، يتراجعون فيه إلى الصفوف الخلفية.. فيعطونه أصواتهم، رغم أن هذا الخطاب عملياً هو أبعد وأوسع من ذلك، باعتقادنا. إنه وصف دقيق لما آلت إليه حال أميركا، وخشية من أن تبقى على هذا الحال. وفي واقع الحال، أميركا لا تشيح النظر عن بوتين وشي وكيم، دون أن تستطيع فعل شيء.. حتى الآن.
أكاديمي وكاتب عراقي