عندما يتبنّى القطاع الخاص أنموذجاً اقتصادياً معاصراً بعيداً عن اللهاث خلف الأرباح.. «قمح» تقوم بمبادرات لحماية الآثار وتدريب الشباب ورعاية الأيتام
تشرين- لمى بدران:
إن الأرباح التي تجنيها الشركات الخاصة من مشاريعها هي غالباً هدفها المنشود، خصوصاً عندما تكون شركة وليدة الأزمة وتجابه ظروفاً استثنائيّة، ومن غير المألوف أن نصادف شركة تجاريّة ما تهتّم بالعمل الإنساني، وإن وجدت فمن الأحلام أن نجدها تراهن وتعمل على الثقافة والتراث في آن، إذاً بتنا نتصوّر شركة اقتصاديّة دمجت الأعمال الخيريّة و الأعمال الثقافيّة، وأعمال توثيق التّراث والآثار والمهن إلى جانب أعمال المقاولات والتطوير والاستثمار بأشكاله كافة.
نتحدّث هنا عن “مجموعة قمح” المُنشأة منذ ست سنوات وتضم ست شركات، والأهم أنّها تُعتَبر أنموذجاً للشركات الحديثة وليدة الأزمة، برؤى جديدة يحتاجها بشدّة المجتمع السّوري.
الموسى: أي رجل اقتصادي لا يهتم بالعمل الإنساني فهو ليس وطنيّاً
ثلاثة أبعاد مترابطة متوازنة
مدير الشركة محمد جاسم الموسى ابن محافظة الرّقة الحائز على ماجستير إدارة أعمال وإجازة في الحقوق، تحدث عن المعايير الأساسيّة العمليّة عنده وكيفية الانطلاق بها، مبيناً أن الشركات الاقتصادية بكل دول العالم، لا تنجح إلّا عندما تعمل على ثلاثة أبعاد مترابطة متوازنة، وهي الاقتصاديّة والمجتمعيّة والثقافيّة، وهذه الأبعاد هي هدفي الواضح الذي نعمل عليه بمجموعة قمح، وأُضيف أنني كنت من المتأثرين بمشاهد الحرب، أقصد أني رأيت كثيراً من الشباب المهاجر الذين بقي أهلُهم المسنّون بعيدين عنهم و وحيدين، والأطفال الذين استُشهدت عائلاتهم وظلّوا أيتاماً من دونهم، وهذا أثّر في نفسي ودفعني لأن يكون هدفي الأوّل من مجموعة قمح هو تأسيس “مؤسسة جديل للخدمات الإنسانيّة والثقافية ” ضمنها، وبالنسبة لي أي رجل اقتصادي لا يهتم بالعمل الإنساني فهو ليس وطنيّاً، أمّا هدفي الثّاني كان “شركة رحى للمدن القديمة” فأنا أحبّ تلك المدن.
الموسى: أعمال المقاولات بالمدن القديمة هي أعمال خاسرة
توثيق ونمذجة الآثار
وتحدث الجاسم لـ”تشرين” عن قيام الشركة بعمليات توثيق ونمذجة العديد من المباني والمواقع الأثرية منها باب النصر وسوق الأحمدية وخان أسعد باشا ..الخ، مؤكداً أن أعمال المقاولات بالمدن القديمة هي أعمال خاسرة، (سواء كانت شركتنا أو أي شركة أخرى)، فمبدأ التّوثيق لدينا ينطلق من الحب والشغف لإحياء تلك المدن القديمة، وبالتأكيد شغفنا موجود مع شغف الأمانة السورية للتنمية وشغف الشركات الأخرى المهتمّة بالتوثيق.
قجة قلعة حلب الثانية
وإجابة عن سؤال «تشرين»: خسرت سورية منذ أيام قامة ثقافيّة كبيرة كانت على تعاون مستمر معكم، ولقد طبعتم له كتابين، ماذا تستطيع أن تقول للباحث والمؤرخ محمد قجّة بعد وفاته؟
يجيب الجاسم: في الحقيقة نحن بمرحلة الحداد على روحه، ولم نتوقّع خسارته حيث كان هناك مشروع ثقافي يهتم بالتاريخ وتوثيق التراث المادي واللامادي وهو “مسابقة شركة رحى للكتاب” يترأسه الراحل قجّة، وخسارة هذا الشخص الذي نعتبره قلعة حلب الثانية سيؤثر على مشروعنا إلّا أننا نَعِدُهُ بأننا سنكمل مسيرة الوعد بإنجاح المسابقة، وأشير هنا إلى أننا وضمن خطتنا بالاهتمام بالقامات الثقافيّة والشخصيات التي قدّمت لسورية، كنا قد عرضنا على صفحاتنا برنامجاً بعنوان “وحدن” التقينا عبره بفقيدنا قجّة قبل وفاته، عدا عن سلسلة من الحلقات الخاصة التي يتحدث فيها عن مسيرته وأبحاثه ورؤيته الثّقافية نُشر بعضها، وبعضها الآخر قيد الإنجاز لتنشر لاحقاً، أما الكتابان اللذان قمنا بطباعتهما له هما “حلب في كتاباتي وقصائدي” وهو مجلّد كبير ١٢٠٠ صفحة، والآخر “أعلام معاصرون” يتحدّث فيه عن١٢٠ شخصية بارزة سورية وعربية وعالمية التقى بهم قجّة خلال مسيرته الطويلة.
الموسى: فقداننا لقلعة حلب الثانية سيؤثر على مشروعنا
مذكرات تفاهم
قمنا بتوقيع العديد من مذكرات التفاهم مع الجامعات العامة والخاصة، يضيف الجاسم، إذ إن مؤسستيْنا جديل الخيرية ورحى للمدن القديمة تهتمّان بتدريب طلاب الجامعات، فنحن عملنا مذكّرة تفاهم مع جامعة حلب، وهي المرة الأولى التي تقوم فيها الجامعة بمذكّرة تفاهم مع شركة خاصة، وبصراحة لقد أقنعناهم بصعوبة، وتمّت المذكّرة بعد أن عرفوا أن المشروع له قيمة كبيرة وأثر واسع على الطلاب، لأننا بموجبها نأخذ الطلاب إلى المشاريع الواقعيّة التي تعمل عليها مجموعتنا، ونشرف على مادة من مواد الطلاب العملية فنعطي رأينا بعلاماتهم، ونزوّدهم بمحاضرات توعوية تعليمية تعريفية تفيدهم في المهنة، كما نتيح فرصة للطالب الذي يبرز بنجاح أن ينضم إلى كوادر شركتنا بعد التّخرج، وأذكر لكم أيضاً أن جامعة الاتحاد الخاصة كانت السبّاقة لمذكرة التفاهم وهي قائمة للسنة الثالثة على التوالي، ثم جاءت جامعة إيبلا، وحالياً لدينا مذكّرتا تفاهم مع كلية الآثار والهندسة المدنية، ونسعى إلى أن تليها كلية هندسة الميكانيك.
أعمال مخططة
وعن الأعمال التي تستحوذ اهتمام “قمح” في الفترة الحالية سواء داخل سورية أو خارجها، أوضح الجاسم أن “إجراءاتنا مستمرّة من أجل بناء أوّل دار أيتام “دار آدم” في الرقة، وعلى وجه الخصوص في ريف الرقة بمنطقة دبسي عفنان التي تضمّ حوالى ٣٥ قرية، ويستوعب الدار كبناء ٣٠٠ حالة، وذلك بالتأكيد بعد أن أجرينا مسحاً اجتماعياً دقيقاً للمنطقة، كذلك نجهّز لنتائج “مسابقة شركة رحى للكتاب” التي تهتم بالتاريخ و توثيق التراث المادي واللامادي حيث سيكون هنالك جوائز مادية قيّمة ونتولّى طباعة ٣٠٠ نسخة من الكتاب الأول، وهي مبدئياً مسابقة تنطلق في سورية ولاحقاً إلى العالمية إن شاء الله، ومستمرين أيضاً بدعم الحِرف والمهن المتراجعة والمهددة بالاندثار، وبتوثيق التراث المادي واللامادي لذلك بدأنا نفتح فروعاً جديدة بدمشق واللاذقية وحمص، ولدينا في هذا السياق انطلاقة جديدة خارج سورية مع ليبيا بمشروع توثيقي لإعادة ترميم مدنهم القديمة فهم متأخرون في هذا المجال وقد اطلعوا على تجاربنا في زيارة سابقة لهم، ولاحظوا الاهتمام الحكومي والخاص الكبيرين بموضوع إعادة الترميم فتمت دعوتنا لاجتماع عمل في ليبيا نطمح من خلاله أن نكون من الشركات السورية الأولى التي تنشر الثقافة السورية بأسمى أشكالها، ولنثبت أن الشباب السوري قادرٌ ومتمكن لأن يعطي حتى ضمن ظروف الحرب الصعبة.
كلمة أخيرة
تسأل «تشرين»: أعمال مجموعتكم واسعة وتشمل الكثير من المحاور الجديدة والتي يصعب ذكر تفاصيلها في حوار واحد، هل هناك كلمة أخيرة توجّهها للشركات أو الجهات المعنيّة أو حتى لمثقّفي سورية في نهاية هذا الحوار؟
أَعتقد أن هناك جانباً قد لا يستوعبه الجميع، يجيب الجاسم، وهو أن القطاعات الخاصّة بشركاتها والقطاعات العامّة هي شركات قطاع وطني، والبلد لن تبنى إلّا بالقطاعين، أتمنى أن نستطيع المساهمة مع كافة الجهات لأجل تأدية واجباتنا الوطنيّة.
أقتبس في نهاية هذا الحوار عبارة لعمرو سليم وهو رجل أعمال مصري معروف: “في عالم الأعمال، اترك مبدأ التنافس واتّجه إلى مبدأ التعاون”، هذا المبدأ يشبه إلى حدٍّ كبير ما تحدّث به الموسى وما يعملون عليه، وربما مجموعة قمح بأبعادها الثلاثة المختلفة ستحقق نجاحاً وأثراً يصل إلى أبعاد غير متوقعة، لأنّها تجسّد أنموذجاً لشركة خاصّة تفهم حاجات المجتمع في الأزمات وتديرها بما يخدم مصالحها إلى جانب المصلحة الوطنيّة العامة.