مَشروعُ دولةٍ و مواطنٍ
الواقعيةُ ليست مجردَ مَذهبٍ أدبيٍّ أو فنيٍّ أو فكريٍّ إبداعيٍّ، بل هي خيارُ حياةٍ ثبتَ أنه الأفضلُ والأكثرُ توازناً على مستوى الدولِ والأفرادِ.. بما أن تطلعاتِ مافوقَ الإمكاناتِ ضربٌ من ضروبِ الشقاءِ المؤرقِ.
اليومَ نحنُ أمامَ واقعيةٍ من نوعٍ هجرناهُ منذ زمنٍ ليس بالقصير، وهي واقعيةُ التفكيرِ والتخطيطِ الاقتصاديّ، والتي تعني استنهاضَ الإمكاناتِ واستثمارهَا، والاعتمادَ على الذات، وهذا الأخير “الاعتماد…” شعارٌ طالما اقترنَ في أذهاننا بإجراءاتِ التقشفِ وضغطِ النفقاتِ وشدّ الأحزمةِ على البطونِ، رغمَ أن دلالاتِ الفكرةِ وتطبيقاتها عكسُ ذلك تماماً.. أي تنميةٌ ونماءٌ وقيمٌ مضافةٌ وعلاواتٌ ومن ثمَّ حياةٌ كريمةٌ بأدواتٍ محليةٍ.. وهذا كله يمكن أن نختصرَهُ اليومَ بعبارة “مشروعات صغيرة وأصغر”، وهي الجملةُ المفتاحيةُ للتنميةِ المقبلةِ على أصولها.
التنميةُ الرشيقةُ والمرنةُ والمتوازنةُ، ذاتُها كانت موضوعَ اجتماعِ السيدِ رئيسِ الجمهوريةِ مع الحكومةِ المصغّرة.. أي لم يعد ثمةَ مجالٌ للعودةِ إلى الوراء، لأن مستوى العناية من جهةٍ و إلحاحَ الاستحقاقِ من جهةٍ أخرى لايسمحان بتاتاً.
فقد أُطلقَت شارةُ البدايةِ الجادّةِ و الجديدة من مقامٍ رفيعِ المستوى، واكتسبتِ المَهمةُ خصوصيتها المتماهيةَ مع حساسيتها، والكرةُ باتت في الملعب التنفيذيّ بالمجمل، وليست في ملعبِ وزارةٍ محددةٍ أو قطاعٍ بعينه.
هنا علينا أن نكونَ واقعيينَ أكثرَ من واقعيةِ فكرةِ هذا النوعِ من “البزنس”، وعمليينَ في التعاطي مع ما أمسى مشروعَ دولةٍ لا مجردَ خياراتٍ أسرية لأدواتِ “الصراع” مع تفاصيل الحياة الصعبة.. أي لابدّ من الإقلاعِ سريعاً بعد سنواتٍ من التحضير والتخطيط والتصنيف والدراسة، وما مضى يجب أن يكون كافياً لبلورةِ خارطةِ طريقٍ لهذه المشروعات الإنقاذية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية.. وحسبنا ألا نُصفعَ بمفاجآتٍ كئيبةٍ من قبيلِ استئنافِ التحضيراتِ والعودة إلى المربع الأول.
فمن غير المقبول أن تكون وزارةُ الإدارةِ المحليةِ بحاجة إلى “صفنة” جديدة لحلّ مشكلةِ التراخيص الإدارية المعيقة للمشروعات الجديدة، أو أن تطلب وزارة الزراعةِ مزيداً من الوقت لإعدادِ تصوراتها لآفاقِ نشر مشروعات التصنيع و الاستثمار الزراعي أفقياً وفق التوزع الإقليمي المفترض أن تكون قد امتلكت “داتا” واضحةً بشأنه خلال زمنٍ طويلٍ من مزاعم الاستعداد.. ومثلها وزارة المالية ورؤيتها لحل مشكلة التمويل، ولعلها معضلةٌ إن لم تكن قد بلورت “المالية” مثل هذه الرؤية طوال السنوات السابقة، وتستمهل اليومَ لبناء استراتيجية فاتها أن تحضّرها..
المسؤوليةُ عامةٌ ومتكاملةُ الحلقاتِ، وأيّ تقصيرٍ يفسدُ السلسلةَ ويعطلُ العملَ ويحرج المُعطل، لاسيما أن الجميع يعلم أننا إن تأخرنا فستمضي الأسرُ وروادُ الأعمالِ بمشروعاتهم ولن ينتظروا الدراساتِ والتحضيرات، بدليل أن الإحصاءات الرسمية تؤكد أن المرخص و المنجز رسمياً من المشروعات الصغيرة والأصغر، أقلُ بكثيرٍ مما أنجزتهُ الأسرُ المدفوعةُ بإلحاحِ الحاجةِ لإيجادِ مصدر دخل مستدام.. ما يعني ترسيخاً أكثرَ وتضخيماً لهيكلِ اقتصادِ الظلِّ الذي يطغى بحضوره على الاقتصاد المُنظم، وهذه بحدّ ذاتها تهمةٌ لاتحتاج إلى إجراءات تقاضٍ لإثباتها..
مشكلةُ المشروعاتِ الصغيرةِ ومتناهية الصغر ليست في الترخيص الإداري ولا في التمويل ولا في مهارات الإدارة والاستثمار ولا في تسويق المنتج والمخرجات، بل في كل هذه الحيثيات، ولانظن أننا بحاجة لعقد ورشات عملٍ جديدةٍ وتداول أفكارٍ للحلّ، بل الحلولُ يجب أن تكونَ قد نضجت، والمنتظر المباشرة فوراً بالتنفيذ على الأرض..
باختصار .. ممنوعٌ الإخفاقُ في تنفيذ هذا المشروع الوطنيّ بامتياز، لأنه مشروعُ دولةٍ ومواطنٍ بإدارة عليا، لا مشروعَ هيئةٍ أو وزارة “تستجدي” استجابةَ شركاء طالما أداروا ظهورهم لها.