عندما يكون للون حكاية.. علي الراعي يرصد سفراء للإبداع في غواياتهم اللونية..
تشرين- راوية زاهر:
(جماليات الغواية اللونية- وجوه من المشهد التشكيلي السوري)، كتابٌ ينبش في عمق التجربة الإبداعية السورية من تأليف الزميل والناقد علي الراعي، والصّادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، مع سابقتين إبداعيتين يدوران في فلك الفن التشكيلي وشواغله وهما:”طواحين الماء، ودروب في المشهد التشكيلي السوري”.
وهذا الكتاب الذي يأتي ثامناً في سلسلة الكتب التي أصدرها الراعي؛ هو قراءة في التجربة الفنية لتسعة عشر فناناً تشكيلياً، بقلم كاتب أغرم بهذا النوع من الإبداع وهيّأ قلمه لينقل لنا تجاربهم ببالٍ طويل، وباعٍ إبداعي أطول، وبلغةٍ شاعرية تارةً، وحكائيةٍ تارةً أخرى، ما يكفل للمتلقي المتعة والفائدة في آنٍ معاً، وتسليط الضوء على تجارب يرقى جلّها للعالمية.. فهم ليسوا تسعة عشر فناناً تشكيلياً وحسب، هم وجوه لتسع عشرة تجربة جمالية وإبداعية، هم تسع عشرة حكاية لبلدٍ يضربُ موعداً مع الغيم والحضارة والتراث، يحملون جواز سفرٍ، هو الإزميل والريشة والحصا، وحولهم يدور الدرويش متجلياً وتلتقطه عدسة الأضواء ببهاء.
افتتح علي الراعي جلسة الإبداع بإغواء لونٍ أنثوي يقوم على تحقيق توازن المعادلة المتناقضة بين “الوجع والجمال”.. إنها الفنانة التشكيلية “ليلى نصير” مُدخلة المتلقي عفوية لوحتها في موضوع الأسطورة والميثولوجيا السورية القديمة التي كانت تغني بها لوحتها مع كثيرٍ من المواضيع والإضافات الجمالية.. وقد اشتغلت نصير على ناس القاع والحدث الفجائعي، وقدّمت لوحةً بهويةٍ محلية وذلك بميلها صوب الأرض السورية القديمة.. استخدمت قلم الرّصاص مُلخّصة مساحاتٍ وحجوماً ورؤى تُطرح بشاعريّةٍ وواقعيّة، وقد كان لليلى نصير حكايتها مع الوجوه، وهي حكايات تراجيدية قديمة في انعكاسٍ لتعابير وجوهٍ، هو مدارات لحياة أليمة معيشة..
فتح الكاتب نوافذ ليلى نصير، فكان لها ثماني نوافذ بدأت بنافذة دخول، فضاءات، الشقاء، وانتهت بنافذة خروج بين الحياة والصورة.. وفي محاولةٍ لتجييل مبدعي المرحلة التشكيلية، كان الحضور للفنان “نذير نبعة” ابن منطقة المزة إذ كانت بيئة ريفية يلفها الجمال والسحر، فانعكست على ميل مبدعٍ راح يلوّن الطبيعة ويتكشّف كلَّ الأنواع النباتية فيها وتعدد ألوانها وتدرجات النّور والظّلّ، ومن ثم الانسجام بين مكوناتها متأثراً بفنانين أقدم كان لهم الدور الكبير في صقل موهبته، ومنهم ناظم الجعفري.
مال الرّاعي إلى تقسيم تجربة نبعة إلى عتبات.. فكانت الميثولوجيا التي تزدحم بها الأرض السورية هي اللبنة الأولى في عمارة نذير نبعة للوحة، وهو من أبدع بالتعامل مع عناصر هذا التراث بحيث يصير العنصر التراثي جزءاً متماهياً وأصيلاً في لوحة فنان اتجه صوب التجريد متمثلة بالدمشقيات ومن معارضه (تجليّات) أشبه بالأعمال الشعرية الكاملة للشعراء..
وفي عرض تجارب الوجوه الأولى، التي مالت إلى الحكائية الشائقة وانعكاس الحياة الشخصية على نتاجات المبدعين ووعيهم التراثي؛ سرد لنا الكتاب سيرة ذاتية لكلِّ فنانٍ تشكيلي تعكس عشقه للون والريشة والبورتريه.. فكانت المادة التشكيلية للكتاب أشبه بنكهة أدبيةٍ بعيدةٍ عن التنظير وخطوط الطول والعرض تلك الأشبه بنوع من التراث الجمالي بهيئة تشكيلية إبداعية.. ومن فترة الحقبة القديمة للوجوه الأولى سنقفُ عند الفنان “ناجي عبيد” من أكبر الفنانين السوريين المعمرين إذ تجاوز عمره المئة، قضاهُ في بحثٍ دؤوب عن الهوية السورية للعمل الفني، غزير الإنتاج، عالي الهمة وصل تعداد لوحاته إلى ست آلاف لوحة، متميّزة بالشمولية وله مئة وخمسة عشر معرضاً، وكان له باع في الإبداع والنقد الأدبيان، وله أيضاً مكان تراثي عتيق أطلق عليه مرسم ناجي في سوق المهن اليدوية.
كان العبيد من قدامى الفنانين الذين أدخلوا الرّقش والتّزيين والحرف والكلمات العربية في اللوحة بما يشبه الكولاج.. وكان له قصب السبق في إخراج العمل الفني من عزلة الصّالات إلى الناس على اختلاف وعيهم الثقافي والمعرفي والجمالي وتقريب اللوحة من الناس، وهو ما يؤكد شعبية اللوحة وعالميتها رغم ميله إلى إثبات سوريتها.. وفيما معد أورفلي، الأكاديمي، فكان له اسمه في هندسة الديكور وقد تموضعت تجربته (مابين هندسة الديكور وإنتاج لوحة حروفية زخرفية)، وخاض في مجال الفنون الإسلامية والخط والزخرفة.. وفيها تخصص في بحثه الأكاديمي في مصر.
وعند الوقوف على أبواب الكتاب بقي حضور الوجوه متتالياً فكان(باب الوجوه التالية) مع نشأت الزعبي ببحثه عن الحقيقة المثالية في هذا الواقع، ومروراً بخليل عكاري الذي سرد تنويعات الطبيعة السورية على بياض اللوحة وشغف بها، ومروراً بـ(إدوار شهدا) الذي اكتشف مشروع اللوحة في كلِّ ما يشكّل حافزاً بصريّاً، فكان وحيداً مع البياض مستلهماً أفكار لوحاته من أشعار محمود درويش وبانياً إياها من اللون بتكثيف وشفافية.
وبشالٍ من انثرولوجيا الفرات يسرد لنا “أنور الرّحبي” سوالفه اللونية مع الرّبة ليليت وحكاياتها لأطفال النهر للنوم بسلام.. ولا يسعنا أثناء التجوال في هذا العالم الباذخ اللون المتكوّم في هذا المنجز الإبداعي إلا الوقوف على تجربة “نبيل رزوق” الذي أفرد له الّراعي عنواناً يليق بطواف لوحته، فحمل سجلّه الإبداعي عنوان: “اللوحة كطوافٍ بصريّ فوق الشام القديمة وهي تهيم بالواقع”.. حفّارٌ مبدعٌ في مجال (الغرافيك) ورئيساً لقسمه في كلية الفنون الجميلة.. وعندما يحلق المبدعون خارج السرب، يصير للوحاتهم حق الدوران في المساحات التي ترسمها لهم الحكايا الناهضة من عمق التّاريخ.. فمع بديع جحجاح في حبق الدوران والمسافة الملوّنة من الألف إلى النون نحكم قبضة الإمساك بعوالم المتعة الخاصة وفيها سنجد مجموعة مبدعين ومنهم جحجاح خصّوا تجاربهم بمعطى واحد واشتغلوا على التنويع على هذا المعطى.. إبداع له جذوره العالمية ووصوله إلى الشرق.. فمن (فان جوخ) إلى (كلود مونيه) وعلاقتهما مع اللون الأصفر ومواسم الحصاد وعباد الشمس عالمياً، ومن ناظم الجعفري في تنويعاته على دمشق القديمة وصولاً إلى صفوان داحول في تنويعاته على المرأة المطوّقة تبدأ رحلة الطواف على المعطى الواحد.. فها هو بديع جحجاح يقوم مشروعه التشكيلي من رمزٍ عرفانيّ جمالي “الدرويش” أو المولوي والذي بدأت حكايته منذ ما يقارب ثمانية قرون، وفي بداية قراءة الكاتب لمشروع جحجاح توّقف على زمان ومكان وطقوس تشكّل المولوية سواء بحضورها الديني أو المعنوي.. فجحجاح اعتمد على “مواربة الدوران والوحيد الذي أخلص لها عربياً وعالمياً لينتج ما يزيد على العشرين لوحة في معرضه الأول في فندق قصر الشهبندر في دمشق القديمة”.. وقد نوّع فيها على الحركة من أكثر من جهة واتجاه، سواء من حيث العدد والتلوين والخلفيات، وبين التجسيد والتوشيح والاستدارة كحالةٍ سرمدية هي التي شكلّت باعثاً للإبداع.. فالاستدارة حالة سرمدية دالة على أن الله هو الأول وهو الآخر، هو المبتدأ والمنتهى.. ومن ثمّ كان التدوير كفطرة إيمانية، وقد برزت عنده مصطلحات الأنسنة والأعمال التركيبية (التجهيز) أو الفن المفاهيمي.. وهي رفقة الفرق المولوية للمعارض التشكيلية ما يترك حالة انطباعية خاصة.
وعند الوقوف على الوجوه خارج السرب؛ يطالعنا وضّاح السيّد والتشكيل شعراً وطقوس (مونادا) القصيدة لعرض اللوحة في بيتها، وبعيداً عن التشابه والتقليد فارقة اتسمت بالخصوصية، إذ بقي يقدّم أعماله الفنية على حواف القصيدة لتشتبك ألوانه مع النص الشعري وقد خصّص والده محمود السيّد ونزار قباني ليكون شعرهما مادة تشكيله الشعري.. وقد نُعت في فنه التشكيلي بـ (فنان المرأة) وأول إبداعاته كانت فوزه وهو بعمر(١٥) سنة بالمركز الأول لجائزة أفضل لوحة على مستوى سورية، لتتوالى إبداعاته على هيئة تجربةٍ لاتملّ الوقوف على عالم الرومانسية الحالمة الموشاة بالروحانية لتعليم الرسم و(لوحة نستالوجي).. هذا هو وضّاح السّيّد ولوحته التي تقول (هذه أنا) أشعة نفسي فقط.. وما ميّز لوحة وضّاح السّيّد إضافة لشاعريتها اللونية إصراره على أدبية اللوحة وهي المأخوذة بالكتابة والتأليف لزمنٍ ليس بالقصير.
وأما عن تجربة سبهان آدم فهي النقيضة لتجربة جحجاح التي حلّقت في عوالم روحانية، طهرانية بينما تجربته جالت في عوالم كابوسية مسوخيّة وقد عنونها الراعي بـ(عن الكائن ذي الكتلة المتورمة قفْ أمام المرآة وفتّش عن الحيوان بداخلك).. وممن حلّقوا خارج السّرب أيضاً كان عبد السّلام عبد الله ورحلته مع الورود كحالة متميزة أفرد تجربته لرسم الورود مشبهاً إياها بالإنسان العاشق.. وكان لتجربته في استخلاص عبق طيبها من قبل الكاتب معنونة بـ(الورود الورود دائماً الورود).. وفي نهاية المطاف كان الوقوف مع وثيقة تشكيلية إبداعية بهذا الحجم كان لابدّ من مطالعة وجوه بعلامات فارقة ووجوه أخيرة، متوزعة مابين جميل قاشا كنحاتٍ نُقلت تجربته من الكينونة إلى الصيرورة، وقد أبدع الكاتب في نقل التجربة كطاقات جمالية كامنة في الحجارة القديمة، وبين نزار علي بدر كمبدع أنطق حجره مستمداً باعثه الإبداعي من جبل الأقرع ولواء اسكندرون واضعاً تجربته كلوحات مرئية لنقل التغريبة السورية حجراً، وتجسيد لحرب فاقت العشر سنوات، صافون، الأوغاريتي والفينيقي، أسماء فضّلها نزار علي بدر ليحمل منها رسالة الحضارة إلى العالم في آخر مدى.. وكذلك التشكيلي حسن عزيز محمد يعيد سرد الحكاية الفينيقية في عمق الشاطئ ولُقاه وسمكاته والأصداف، نحّات على مستوى البحر ومجاهيله والرّمل وشواغله.. وكذلك من الوجوه التي شكلت علامة فارقة، كانت تجربة الفنان أسامة جحجاح بتلك الأنوثة التي تأتي كحامل جمالي وإنساني، وقد ترك نساء لوحاته الحالمات بوجهٍ موارب تارةً وضبابيّ تارة أخرى مقدّما لنا نصّاً بصريّاً وعلامة فارقة في الفن التشكيلي السوري.
وكذلك لا يمكن تجاوز أقلام رسمت بسخريةٍ الواقع بكل تفصيلاته النفسيّة والإنسانية، فكان يحمّلها الفكر والفكرة على هيئة شيفرة ومونولوج تربطه بالناس، فكانت التعبيرية لديه مبالغ فيها على هيئة كاريكاتورية عالية الجودة، إنه الفنان الكاريكاتوري عبدالله بصمه جي.. وفي نهاية هذه السلسلة الإبداعية المنتقاة بإبداع بدأ الراعي بتجربة المرأة السورية التي وضعت الفن التشكيلي السوري في مكانه اللائق (ليلى نصير) ليختم بتجربة نسائية كانت قد كتبت لوحاتها بالضوء في عراكها مع الزمن، وهي الفنانة (أسمهان حامد) في مجال التصوير الضوئي مسلطةً أضواء كاميرتها على المنسيات والمهملات في زمن فوضوي مزحوم وفي محاولة لإعادة الكبرياء للطبيعة الواقعة تحت راية البشاعة والتكسير ولحظات الضوء الهاربة.
وفي الختام: فإنٍ كلّ تجربة في هذا الكتاب تفتح عند متلقيها شهيّة الغوص في عمق اللون وتضعنا في محاكمة مع الذات إن طال الحديث عن تجربة دون أخرى، ولكن ضيق المساحة أوقعتنا في فخ الاختزال.. ولابدّ من الاعتراف أن هذا المنجز الإبداعي (وجوه من المشهد التشكيلي السوري) علامة فارقة في عالم الفن التشكيلي السوري ومدونة جمالية ترصد تجارب وحياة مبدعيها.