بين الأزرق ولون الحجر الرمليّ.. «غسان جديد» لا يملُّ من بناء مدينة حلمه المُشتهاة
تشرين- علي الرّاعي:
منذُ بداية توجّه غسّان جديد صوب الفن التشكيلي، وكان ذلك منذ زمن أمسى اليوم بعيداً – إذ تعود بداية التجربة الفنية إلى سنة 1964-؛ اتضح له، أنّ العمل الفني لا يأتي بسهولة أو ببساطة، وإنما يحتاجُ إلى الكثير من «العراك الفكري والثقافي والنفسي، ثم التخلص من الكثير من القناعات والتفاصيل والأهواء للوصول إلى نوع من الرضا الذاتي».. لكنه في الوقت ذاته لا يحتاج إلى التعقيد، أو الدخول في المتاهة، ثم كان أن وجدها في حقول «السهل الممتنع».. عدّته في هذه الحقول التلقائية والبدائية التي نافس من خلالها خيالات الأطفال وتخيلاتهم، وكأنه يحقق مقولة (بيكاسو) «أنّ كلَّ طفل يولد فناناً، غير أنّ المهم أن يحافظ الفنان على الطفل فيه.» .. وهنا بقيت نظرة ذلك الطفل، أقام في الدواخل، ولم يخرج منها، متأملاً عمارة يُعيد بناءها بحرفية عالية.. وهو بهذه «المفارقة»– التلقائية والحرفية – استطاع أن يُفارق المحترف الذي يكاد يكون مُتماثلاً في المشهد التشكيلي السوري..
في البيت الأزرق
هذه التجربة التي يُعرض بعض من تلويناتها في صالة «البيت الأزرق» في دمشق هذه الأيام – والتي راكمت الكثير من اتجاهات الآخرين، وذهبت معهم بعيداً في تلك الاتجاهات قبل أن تتأكد من اتجاهها الخاص الذي سلكته، وشكّل من خلالها خروجاً عن النسق، وكذلك عن السرب صوب حالةٍ لونية معمارية لها علامتها الفارقة أيضاً ضمن نسقها الذي أخذ من المدن العتيقة مجالاً رحباً لفيض من الألوان والتكاوين لمكان بعينه الذي هو (طرطوس القديمة)..
طائر يتخلّص من خيوطه
يُشبّه غسان جديد أمر تلك التأثرات بـ«طائرٍ مربوطٍ بعدّة خيوط، وكلما شعرَ بنضجٍ وقوةً أكبر تخلص من أحد هذه الخيوط..»، إلى حدِّ أنه تخلص منها كلها، وبدأ التحليق بجناحيه حرّاً ووحده، ولاسيما مع بداية التسعينيات؛ إذ يقول: «بدأت أرسم شخصيتي الفنية، إذ تشكلت هذه العاطفة الذاتية تجاه عملي الفني»..
البدايات التي كانت مندهشة بتجربتين على الأقل، وهما تجربة مُبكرة مع الفنان التشكيلي لؤي كيالي الذي كان يُرافقه في مرحلة رسم كيالي للصيادين في جزيرة أرواد، ومن خلاله بدأ يتعرف إلى المناخات الثقافية وروادها في دمشق، ولاسيما الفنان فاتح المُدّرس الذي كان المؤثر الثاني، أما المؤثر الثالث؛ فكان أناساً كثراً ولاسيما هؤلاء الفنانين الأوروبيين الذين كان لهم تأثيرهم أيضاً على كل من الكيالي والمُدرّس.. غير أنه سريعاً صنع لنفسه أسلوبه الخاص، وكانت له تنويعاته التي حددها بمعطيّاتٍ جمالية لم يحد عنها كثيراً، وإنما بقي في مناخاتها طول الوقت، ورغم عدم الإضافات، أو لنقل الانعطافات في هذه التجربة الفنية فإنها اكتفت بذاتها ملونةً مساراً خاصّاً بها في الساحة التشكيلية السورية.. أو كما يقول عنها الناقد سعد القاسم: «على امتداد السنوات الوفيرة التي أبدّع فيها غسان جديد لوحاته الممتعة؛ لم تتنازل تجربته الثرية عن صفتيها المميزتين، أولاهما المشهد الطرطوسي الرائع الذي لم يغب عنها، وثانيتهما تلك العفوية المدهشة التي تصوغ هذا المشهد، محافظةً على تجددها كلِّ مرة».. فمنذ زمن بعيد، زمن الطفولة، وعندما كانت طرطوس بأسوارها القديمة وعندما كانت معابدها، وقلعتها، وطاحونتها، تميلُ على كتف البحر كجيرانٍ، موغلين في الزمن القصي، تغسلُ أقدامها بأمواجه عند كل مدٍّ وجزر.. طرطوس القديمة تلك، وقبل أن تفصل بين الجارين استثمارات الأغنياء، وعبث الناس، وإهمال الجهات الرسمية لها، والتي تنهار اليوم جوانب من عمارتها مع مرور الأيام نتيجة ذلك.. زمن الطفولة هذا لن يعود إليه الفنان التشكيلي غسان جديد كما فعل بعض الفنانين في عدّة تجارب تشكيلية بعيدةً عن المكان، إذ يعودون إليه بعد حينٍ من الدهر، كذكرى قصيّةٍ وجميلة… كدنيا مُشتهاة.
غسان جديد سيحمل هذه«الجغرافيا» من المكان الذي أحبّه وأقام فيه، على مدى جغرافيا العمر كلّه، من دون أن يتوسل مكاناً آخر طلباً للشهرة وغير ذلك، ووجد أنّ طرطوس القديمة ببحرها، وفرّت له الشهرة، وكانت النبع الثرّ الذي لا ينضب.. ينهل منه ما يشاء تشكيلياً وجمالياً.. كدنيا مشتهاة يُعيدُ تشكيلها بصياغاتٍ متعددة، ولانهاية لتعدد صياغاتها.. وهنا غسان جديد سيتفق مع شاميٍّ آخر أيضاً وقف أعماله التشكيلية على دمشق القديمة، حتى بلغت اللوحات التي اشتغلها عن دمشق نحو ستة آلاف لوحة، وأقصد به الفنان ناظم الجعفري، لكنه مع ذلك سيختلف عنه في التناول.. لأن الجعفري اشتغل على دمشق القديمة توثيقياً وموغلاً في رسم تفاصيل هذا الجزء الحميمي من ذاكرته كشاهدٍ على ولادته ونشوئه الأول.. في حين غسان جديد سيلتقط من المكان روحه، كصرخةٍ ملونة عفوياً، وكأنها رسمت بيد طفل، فتأتي الأمكنة سابحة كالأرواح في بحرٍ أو فوق بحر من الألوان الحارة والباردة معاً بكل صراحتها ووضوحها، إذ سيتجاور الأورانج بتدرجاته بين البني والبيج، مع تدرجات الأزرق، وهما اللونان اللذان نشأ عليهما وتشبثا بتلافيف الذاكرة.. ألوان البحر بزرقته المتبدلة مع مزاجية الموج.. وألوان البحر الرملي الذي شيدت به طرطوس القديمة..!!
طرطوس الحلم
يقول غسان جديد لـ«تشرين»: طرطوس بالنسبة لي، تشكيلياً، هي عاطفة تتشكل كطائرٍ يُحلق فوقها، فكان هذان اللونان، لون البحر ولون المدينة القديمة المطلة على البحر.. طرطوس أحملها كقصرٍ فوق رأسي، أبعثُ إليها برسائلَ حبٍّ طوال الوقت.. احتفالٌ يأتي دائماً بتوليدات جديدة، الغالبة عليها الرؤية الداخلية، فتأتي كالأحلام.. ولأنها كذلك، فقد ابتعد غسّان جديد في تصويره طرطوس القديمة عن التسجيل والتوثيق، وإنما عمارة حانية جانبَ قدر الإمكان الخطوط المستقيمة والحادّة، وإنما دائماً ثمة حلم أو أحلام خيطية وردية وفرحة بعيداً عن الكوابيس وصرامة الخطوط الناظمة والمستقيمة، بل، وتغلب عليها فوضى الانحناءات والالتفافات، مظهراً عشوائية مُدهشة بالنزوع نحو الحركي والخيالي.. فالبحر قد يدخل في أزقة المدينة، وكذلك السماء، والعمارة ومن ثمّ قد تحلق طوراً، وحيناً قد تطفو.. يحملُ المشهد البصري رموزَ الخصب القديمة من دوائر ومثلثات وعربات أطفال.. تأتي الرموز هنا أقرب إلى توقيع غسان جديد وبصمته على اللوحة.. إذ يسردُ من المشاهد التي تتتالى كأفلام الكرتون أو الرسوم المتحركة بحركةٍ أو حركات وتكوينات أقرب إلى الفطرية والعفوية تماماً كأحلام الطفولة الملونة.. ألوان عمارة وبحر وسماء لا تحتمل وجود أشخاص في كوادرها، وكأنه يحمّل ناس المكان ضريبة خرابه، فكان أن أبعدهم عن المشهد البصري لديه، ولم يحتفِ أو يحتفل بهم في اللوحة، وإن كانت «الأنسنة» صبغت التكوينات والتلوينات والحركة والالتفافات في كل تفاصليها.
غسان جديد هنا يركزُ جهده في التعبير عن الصورة النفسية «الداخلية»، وليس الصورة الخارجية، لكن من دون أن يُغيبها، ومن دون أن يكون الإنسان محوراً لها كما درجت عليه التعبيرية في نشوئها الأول.. وكانت للون والخط هنا وظيفتهما التعبيرية الصرف، فتلوى الخط تحت تأثير المشاعر الذاتية والعاطفية للفنان الذي، وإن حوّر الشكل بعض الشيء، لكنه لم يصل لحد التشويه، وإنما الاختزال، أو قل التكثيف الجمالي الإبداعي، مُستفيداً من تفجر طاقات اللون الكامنة، ومتجهاً بالتعبيرية هنا باتجاه التجريد إلى حد كبير، لكنه ليس التجريد الصرف، إذ بقيت الخطوط تقوم بمهامها الجمالية التشخيصية الحالمة بمكان ملوّن تطلق عليه اسم «”طرطوس»..!!