ممراتُ الموتِ العابر إلى الشرق
لا علاقةَ هذه المرّة للتاريخ وماضي وحاضر ما تبقّى من سِفْر الصراع العربي الصهيوني المُزمن؛ بل الحكايةُ، كلّها ببعدها الحقيقي، حكايةُ مستقبلٍ حُبِكت بعنايةٍ فائقة، وتمَّ البدءُ بتجسيد فصولها منذ أسابيع على مسرح الرعب الرحب، هناك في غزّة، حيثُ باتت سياسةُ الأرض المحروقة ممرّاً باتجاه واحدٍ نحو مغامرةٍ، ربما ستكون الأخطرَ والأكبرَ في التاريخ الحديث.. إعادة صياغة وتشكيل جغرافيا وديموغرافيا منطقةٍ واسعة الطيف.
لم تعدْ الغايةُ مجهولةً في مُجمل المشهد في الأرض المحتلّة، بـ«استتباعاته» على البرّ وتحتَه، وفي البحر وفوقَه .
الاقتصادُ بأبعاده كلّها، هو الغايةُ والهدفُ اللذان باتا معلنين وواضحين على الرغم من غُبار الحطام والركام.. اقتصادٌ أدواتُه الصواريخُ الشرِهة لخرق الأرض، بل والنفاذ إلى النصف المقابل من تكوّر هذا الكوكب، والقنابلُ ذاتُ الأوزان العملاقة التي تنوءُ تحتها طبقاتُ جيولوجيا عنيدة، مطلوبٌ تطويعُها وإزاحتُها من طريق «قناة الحلم الجديد».
إنه الاقتصادُ إذاً.. سرُّ الجنون والهيَجان، وسرُّ ما يقابلُه من صمتٍ؛ يتساءلُ العالمُ كيف لم يخنقْ أصحابُه بعدْ !!
منذ بداياتِ القرن «السادس عشر» أبادَ القراصنةُ المهووسون بالذهب سكانَ قارةٍ بأكملها، واليومَ، يبيدُ أحفادُهم المأخوذون بـ«لوثةٍ» مشابهةٍ، شعباً وأرضاً وتاريخاً، وهم يؤسّسون لممرٍّ اقتصاديٍّ بحريٍّ؛ «سيُغرق» المنطقةَ، ويبتلعُ اقتصاداتٍ، ويتقيّأ أخرى.
المسألةُ أبعدُ بكثيرٍ من نطاق «حرب الإبادة» التي تجري في غزّة؛ فنحنُ أمام أحدث طرازٍ مُبتكر من فصول الحرب الاقتصاديّة بين أقطاب هذا العالم؛ حرب الممرّات وسباق النفاذ إلى مطارح النفوذ والسطوة والثروة.. إنه الأنموذجُ الكئيبُ لتحوّلات النعمة إلى نقمةٍ، وديكتاتوريّة الجغرافيا إلى لعنة الجغرافيا، إن لم توفَّ استحقاقات الحيازة والحماية والتحصين.
الحربُ على غزّة ليستْ حرباً على أهلها فحسب، بل هي حربٌ على قطبٍ عالميٍّ جديد، لا مجرد محورٍ إقليميٍّ، حربُ اقتصادٍ مصيريّة؛ تبدو معادلاتُ الربح والخسارة فيها أبعدَ بكثيرٍ من المجال الجغرافيّ السياسيّ للمنطقة.
لم يتضحْ بعد، إنْ كان ثمّة حِراكٌ ما للقطب الناشىء في سبيل الدفاع عن مصالحه ومشروعه الواعد، لكنْ، بالتأكيد، سيكون علينا ترقّب تطوراتٍ من نوعٍ غير مباشرٍ، لاستدراك «الاختلالات» الحاصلة في المعادلة، وهذا ليس تفاؤلاً وجدانيّاً، بل هو استقراءٌ، نظنُّه موضوعيّاً، بناءً على مجرياتٍ مكثّفة، تسارعتْ على مسرح «كباش الأقطاب».
في الأمس، بدأت شركاتٌ صينيّةٌ عملاقةٌ بتوزيع «خريطة» تسويقيّة جديدة لتوجّهاتها في «الشرق الأوسط »، حذفت منها أيّ معالم تتعلّق بالكيان الصهيونيّ.
لم تفصحْ الشركاتُ عن السبب، لكنْ، يبدو أنّ ثمّة رسالةً وشيئاً ما علينا قراءتُه بحذاقةٍ؛ لأنَّ حربَ اليوم اقتصاديّةُ الغاية؛ وإنْ كانت عسكريّة الوقائع.