دورُ نشرٍ

بعض الكتب تتركها جانباً، لا تبحث لها عن مكان على رفوف المكتب، ليس لأن هذه الرفوف امتلأت ولم تعد تتسع للمزيد، بل لأنها تحتاج إلى هوية تعطيها قيمة تجعلها جديرةً بالاصطفاف إلى جوار غيرها مما اقتنيتَ وجمعتَ وقرأت!
في ظروف تشبه احتفاليات المعارض، أو الأمسيات الثقافية، تُقدّم لنا مجموعةٌ قصصيةٌ أو رواية أو ديوانُ شعر بيد كاتبها الذي يروي، على الهامش، كيف حورب في فكره وإبداعه بحيث لم تتبنَّ جهة رسمية هذا الإبداع حتى اضطرّ لنشره على حسابه، لكننا حين نطالع الكتاب لا نجد إبداعاً يُذكر، ونعاني أكثرَ من الكاتب نفسه: ما مصير هذا الكتاب الذي انتقل من مخطوط واحد في دُرج إلى نسخٍ متعددة تحتاج إلى أمكنة عند «قراء» مفتَرَضين؟ أين يذهب به صاحبه الجديد؟ هل يحتفظ به على مضض؟ هل يرميه؟ خاصة أن المكتبة الشخصية تنمو وتحتاج بين آن وآخر إلى تخفيف أحمال أو تقليم كحال الشجرة المثمرة!
هذه الظاهرة لم تكن قويةً وواسعةَ طرْحِ المطبوعات إلى درجة السيل الذي نراه اليوم بكثرة «الموهوبين» المطارَدين بتشدُّد الجهات الرسمية، حتى نكاد نجد أكداساً تصلنا من دواوين وروايات وقصص، كنت بيني وبين نفسي أحمّل الكاتب منهم مسؤولية تقييم ذاته بما ليس فيها، حتى انتبهتُ إلى المسؤول الحقيقي في «إجازة» التفاهة! إنها دور النشر المتكاثرة التي تعتمد قيمة ما تنشر مادياً وتغطي قيمة الغلاف والورق من دون الاهتمام بالمضمون وقيمته ومستواه، رغم إلزام الجهات الرسمية لهذه الدور برقابة المضمون وتقييمه الذي يتمّ على الأغلب عن طريق الشكليات وعدم القراءة النقدية المتفحصة!
اللافت أن «الكتاتيب» التي كانت تعلم الحروف والقراءات تطورت إلى مدارس منتظمة تقدم كل العلوم، أما عالم النشر، فقد انتكس من تقاليد عريقة تبنّتها وزارات ووظّفت فيها من هو أهلٌ لها، إلى زمن بساطة تلك الكتاتيب صاحبة الشيخ الواحد الذي يعطي كل علوم الكون وهو على «طراحة» بسيطة، مع حفظ مفارقات من ذلك الزمن الذي قدّم أعلاماً بعد تخطّيهم مرحلة «الكُتّاب» لأنهم ببساطة امتلكوا الموهبة، امتلاك الجوهر الثمين الذي يحتاج إلى صقل!
ليس من الموضوعية أن نضع كل دور النشر الخاصة في سلة واحدة، لأن بعضها أو ندرةً منها بنت نفسها بقوةٍ تماثل وزارة ثقافة، حين اعتمدت قرّاء مخطوطات مشهوداً لهم بملكة النقد وفرز القمح من الزؤان، والتشدد ليس في الأخطاء اللغوية أو لمْح الركاكة بل في المستوى الفكري والإبداعي أيضاً، حتى صارت قيمةُ الدار تعطي من ذاتها قيمة للكتاب الذي يتروّس باسمها وشعارها!
لن نحاسب الكتاب ولا الكاتب، بل دار النشر التي تبتلينا بورقٍ ملوّثٍ بالحبر لا أكثر ولا أقلّ!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار