الفلندي «جان سيبيليوس».. إبداعٌ في كتابة الأعمال السيمفونيّة

تشرين- إدريس مراد:

عندما جاء المؤلف الموسيقي الشهير «غوستاف ماهلر» إلى هلسنكي عام 1907خصيصاً لزيارة الموسيقي الفلندي الأول«سيبيليوس»، دار نقاش مطوّل بينهما حول آرائهما المتضادة في كتابة السيمفونية، فمن وجهة نظر ماهلر، السيمفونية هي عالم يجب أن يضم كل شيء، أما سيبيليوس فيراها منطقاً عميقاً يخلق رابطة بين جميع الموتيفات، وصرامة في الأسلوب، ومن هنا أبدع سيبيليوس في كتابة هذا الشكل الموسيقي مختلفاً عن غيره، وهذه المهارة ألقت بظلها على جمالية أعماله الكورالية وأغانيه.

من الأساطير أولاً

جاء أول عمل كبير له عام 1891 مستوحى من أساطير كاليفالا الفلندية، وهو سيمفونية كوليّرفو للكورال والأوركسترا، وقدمت بعد عام من تأليفها بنجاح فائق، ورفع اسمه كأهم موسيقي فلندي، وطلب منه قائد الأوركسترا كاجانوس تأليف عمل آخر من هذا النمط ، وثيق الصلة بأساطير الوطن الفلندي، فأنجز سيبلوس القصيد السيمفوني (أسطورة)، وكان ناجحاً أكثر من الأول عند تقديمه في وطنه وفي الخارج، ليقترن اسمه عند الأوساط الفنية الأوروبية بالوطن الفلندي، وبعد هذين العملين لم تنته قصة سيبيليوس مع الأساطير، إذ ألف أربعة مقاطع أوركسترالية تروي مغامرات البطل الأسطوري ليمينكاينن، فعدّ سيبيليوس بطلاً قومياً في فلندا، وصوّت البرلمان بالإجماع على منحه راتباً سنوياً مدى الحياة.

الأعمال السيمفونية

وبعد جولته في أوروبا، عاد ليبدأ تأليف أولى سيمفونياته التي امتزجت أصالتها بالرومانتيكية السلافية المستمدة من تشايكوفسكي، وساهم في تأليف موسيقا مرافقة للوحات حية عن تاريخ بلده (مشاهد تاريخية)، وأكثرها شهرة فقراتها التي جاءت باسم (فينلانديا)، إذ عزفت فرقة هلسنكي الفلهارمونية بقيادة كاجانوس السيمفونية الأولى ومقطوعة فينلانديا ومختارات ليمينكانين خلال معرض باريس عام 1900، لتبدأ شهرته بالانتشار في أوروبا، وتتالت عليه الدعوات من إنكلترا وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا.

وبعد هذا الحدث بعام، كتب سيمفونيته الثانية في إيطاليا من مقام ري ماجو، تضمنت «كورتيج» للأوركسترا وصوراً للوتريات، وهي كلاسيكية في شكلها، إذ استخدم فيها ثيمات قصيرة، عكست ولعه بالقرار أو الباص المتكرر بشكل دائم، وفضّل فيها المقاطع الوترية الطويلة التي لاقت نجاحاً باهراً أيضاً في هلسنكي.

أما السيمفونية الثالثة، فجاءت مختلفة عن السابق وأكثر أصالة بتقليديتها، بينما سيمفونية سيبيلوس الرابعة محكمة وصارمة مفعمة بالعاطفة ومكتوبة بدقة متناهية تعتمد على تفاصيل مدروسة في الجملة الموسيقية.

وفي عام 1914 وبعد عودته من الولايات المتحدة، انعزل عن الناس بسبب الحرب العالمية الأولى، ولكنه احتفل بعيد ميلاده الخمسين بتأليف السيمفونية الخامسة، وقد جمع هذا العمل الأكثر شعبية كل ميزات السيبيلوسية، وتضمن قوة عاطفية كبيرة، وبعد الحرب بفترة قصيرة وتحديداً عام 1921 زار لندن للمرة الثانية، ومنها استمد سيمفونيته السادسة التي أتمها بعد عامين، وتميزت بهارمونياتها المقامية المزخرفة، وتلتها السيمفونية السابعة التي صاغها بحركة واحدة، ولكن تظهر في داخلها الحركات الأربع بشكل واضح التي ينسج منها العمل السيمفوني عادة، وعلى الرغم من أنه كتب السيمفونية الثامنة، لكنه أتلفها، وانتهى تعداد أعماله السيمفونية عند السابعة منها.

صمت ستةً وعشرين عاماً

فيما بعد، كتب قصيدة سيمفونية بعنوان (تابيولا)، وخلال السنوات الست والعشرين الأخيرة من عمره لم يكتب جملة موسيقية واحدة، وبقي صامتاً خلال هذه السنوات حتى وفاته في منزله بهلسنكي عام 1957، وبعيداً عن أعماله السيمفونية كتب العديد من الأنماط الأخرى، مثل ثلاثي بيانو في فام مينور، رباعية وترية مي بيمول ماجور، ثيمة وتنويعات لرباعية دو دييز مينور، خماسي بيانو تضمن رباعية سي بيمول ماجور ومتوالية لآلة الكمان والفيولا والتشيللو وسوناتا لآلة الكمان، إضافة إلى موسيقا مرافقة للمسرح كالملك كريستيان الثاني وعدد كبير من الأعمال الأخرى.

الرومانتيكية والشاعرية

يعد سيبيليوس في المقام الأول مؤلفاً سيمفونياً، اكتسب أسلوبه في البداية صبغة وطنية أسطورية، فيما بعد اتخذ منحى أوسع مستقراً في موقع وسط بين الرومانتيكية الحديثة والشاعرية الوطنية، مع التجنب المقصود لأي تجاوزات فولكلورية، إذ لم يلجأ للاستخدام المباشر للحن الشعبي، بل ألف أعمالاً توحي معالجة ألحانها بطبيعة وطنه فلندا.

ولد جان سيبيليوس عام 1865 في قرية صغيرة (هامينلينا) تقع جنوب فلندا، ونشأ ضمن عائلة تهتم بالثقافة والموسيقا، بدأ بتعلم العزف على البيانو، وهو في التاسعة من عمره، ولكنه بدلها بآلة الكمان، وأنهى دراسته الثانوية عام 1885 ودخل كلية الحقوق في هلسنكي لتلبية رغبة العائلة، وفي الوقت ذاته تابع دراسة الموسيقا، اختصاص الكونتربوان والهارموني، وألف قطعاً موسيقية في موسيقا الحجرة نالت إعجاب مدرّسيه، وترك الحقوق، وأكمل دراسته الموسيقية في كونسرفاتوار هلسنكي من عام 1886 إلى عام 1889، إذ حصل على منحة دراسية لإتمام دراسة الموسيقا في برلين، والتأليف على يد الموسيقي بيكر، وسنحت له فرصة لدراسة التأليف أيضاً في فيينا على يد غولدمارك وفوش.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار