من قصص ألف ليلة وليلة.. رائعة ريمسكي كورساكوف شهرزاد
تشرين- إدريس مراد:
بدأ المؤلف والموسيقي الروسي ريمسكي كورساكوف الذي عاش بين عامي 1844- 1908 حياته المهنية بحّاراً، حسب رغبة عائلته الأرستقراطية، ولكن عمله هذا ساعده على فتح مخيلته الموسيقية كعازف بيانو، ومؤلف موسيقي فيما بعد، وخاصة رحلاته إلى الولايات المتحدة خلال الحرب الأهلية، والشرق الأدنى وآسيا، وفي هذه المسافات الطويلة، كان يستمتع أحياناً في العزف، وأحياناً الاستماع إلى الموسيقا، والاطلاع على موسيقات الشعوب التي يمر بها، وفي بلاده يواظب على حضور الحفلات وعروض الأوبرا، ليتأثر أشد التأثير بأعمال ميخائيل غلينكا مؤسس المدرسة القومية الموسيقية الروسية، حتى قابل ميلي بالاكيريف حيث تأثر بتوجهه القومي في التأليف الموسيقي، وانضّم إلى التجمع الذي رأسه بالاكيريف، الذي عرّف بالخمسة، أو الخمسة الأقوياء، كما أسماهم الغرب، وجميعهم من أتباع المدرسة القومية وهم: كوي، بورودين، موسورسكي، كورساكوف وعلى رأسهم بالاكيريف، وكان هدفهم خلق موسيقا أكثرالتصاقاً بأمتهم، تعكس همومها ومطامحها وأحلامها، وركزوا على العناصر القومية في الموسيقا، كالأغاني والرقصات الشعبية، والإيقاعات النابعة من صلب الموسيقا الروسية، إضافة إلى مواضيع الأوبرات والقصائد السيمفونية التي تعكس التاريخ القومي لبني جلدتهم، وانطلاقاً من هنا كتب كورساكوف جلّ أعماله ولاسيما السيمفونية منها، فضلاً عن أعمال ألّفها استناداً إلى ملاحم الشعوب الأخرى، مثل النزوة الإسبانية، سيمفونية عنترة، ولكن أجملها على الإطلاق كانت السيمفونية التي أسماها شهرزاد.
حكاية شهرزاد
عندما توفي بوردين عام 1887 ترك خلفه أوبرا الأمير إيغور ناقصة، فأكملها كورساكوف، ومن خلالها بادر إلى ذهنه موضوع الملاحم والقصص الخيالية، فكانت السيمفونية (شهرزاد) المأخوذة من قصة (ألف ليلة وليلة)، وشهرزاد التي أنقذت حياتها من بطش السلطان شهريار، وقناعته بأنّ كل النساء خائنات بعد خيانة زوجته له، فبدأ بقتل كل امرأة يتزوجها بعد الليلة الأولى، أنقذت شهرزاد حياتها من خلال إلهائه بحكايات ناقصة تتلوها عليه ليجتاحه الفضول بماذا ستنتهي الحكاية، فيؤجل قتلها يوماً بعد يوم، إلى أن تخلى عن فكرته، فقد حوّل كورساكوف هذه القصة الخالدة إلى سيمفونية في غاية الجمال والإتقان وبدوره خلّد هذه القصة بالموسيقا، وإلى يومنا هذا تعزفها كل الأوركسترات في العالم، وقدمتها السيمفونية الوطنية السورية أكثر من مرة على مسارح دمشق.
جمل لحنية متقنة
استطاع ريمسكي كورساكوف أن يدخل المتلقي إلى تفاصيل الحكاية بالآلات الموسيقية المختلفة، بأسلوب محكم، ولاسيما عبر ربط مقدمات قصيرة بين الحركة الأولى من السيمفونية والحركة الثانية والرابعة، ويلعب الكمان دوراً منفرداً مجسداً شهرزاد وهي تروي حكاياتها لشهريار، وجاءت الحركات الأربع التي تتألف منها السيمفونية متماسكة بشكلٍ وثيق ومزخرفة بمواضيعها.. تالياً تشكل صوراً لحكايات خيالية ذات طابع شرقي، قطعة موسيقية رائعة مليئة بالجمل الفردية الحيوية ذات ألحان ساحرة وتنظيم سلس، تلعب فيها الآلات النفخية الخشبية دوراً مهماً.
أول ليلة آمنة
في الحركة الثانية وبعد مقدمة قصيرة تدخل آلة الباصون بلحن حزين وتزداد شدة بعد دخول آلة نفخية ناعمة، وبدخول آلة الكمان تعلو أصوات النحاسيات، لتكون مقطوعة من أجمل ما أبدعه كورساكوف، وتنتهي الحركة مع آلة الباصون.. تبدأ الحركة الثالثة برقة وهدوء، إنه تدفق رائع للاختراعات اللحنية، تصل الحركة إلى نهايتها اللطيفة والرومانسية.
أما الخاتمة، بعد مقدمة مزدوجة، سريعة ومثيرة، ليجسد هنا دور شهريار آلة الترومبون بطريقة مبهرة، تتخللها ضربة واحدة على آلة تام تام، ليكون مثالاً رائعاً للحن أنيق بكل إيقاعاته الملونة وتتسلل الموسيقا ببطء وتالياً تعلن أول ليلة نوم آمنة تنامها شهرزاد بعد ما يقارب ثلاث سنوات من الخوف والرعب.