بين التحليل السياسي وأحلام اليقظة.. فاغنر «برغشة» فوق فرو دبّ
تشرين- ادريس هاني:
ننسى الحدث لنواجه حدثاً آخر يتعلّق بظاهرة نسج خيوط عنكبوت خيالية.. الرغبة في أن نجعل المستقبل الذي هو من يأتينا موضوعياً، يحبو أمام أنظارنا. هذا الشكل من التحليل الذي يستهتر بالواقع هو مُضرُّ بالحسّ المشترك، وبالتّالي بالسياسة.
يقتضي التحليل السياسي الرّوية، واستجماع المعطيات، وتسييل فعل الحدس السياسي، وصيانة أدوات التحليل، وإلاّ ضحكت علينا الأمم. أحياناً نتساءل: هؤلاء يخاطبون من؟ وأي متعة يجدونها في هذه الهلوسات؟
الأمر بسيط، بوتين يقود مباراة كبيرة في لعبة الأمم. ما زالت هناك تداعيات ومستحقات السقوط المدوّي للاتحاد السوفييتي. اليوم روسيا دولة عظمى، وهي لا تحارب لإثبات ذلك، بل هي تنهي مهمّة استكمال احتواء خطوط الصدع، وليس مسموحاً بأن تكون قطباً ولو رأسمالياً إن كنت منافساً. انتهى دياليكتيك «الكومكون» والسوق الأوروبية المشتركة، بين معسكرين نقيضين. كذلك، بوريس يلتسين لم يكن شخصاً انتهت مهمته، بل هو ممثل تيار عميق وشريحة كبيرة في المجتمع الروسي. فكرة «فاغنر» في الحقيقة لم تكن تروقني شخصياً، فوجود قوات خاصة تابعة لشركة، ظاهرة ليبرالية جديدة وغير مضمونة، ولا يتعلق الأمر بمسرحية أو لعبة داخل قواعد اللعبة الكبرى التي تخوضها موسكو في أوكرانيا. وسيكون من السهل وضع حدّ لـ«فاغنر»، وهي عملية لا تكلف أكثر مما حدث، لكن الإعلام المناهض لروسيا يسعى إلى تضخيم الحدث كما لو أنّ الدولة العظمى ستخوض حرباً عالمية ثالثة بحفنةٍ من محترفي القتال بـ«وصل تجاري». ويصعب عليّ تحديداً أن أعطي دروساً لروسيا وبوتين، لسبب بسيط هو أنّ حجم المعطيات -الذي وحده يمنح إمكانية قيام خريطة طريق داخل اللهب – يُمكّن بوتين من التحكم بالأوراق، فحادثة سير على الطريق لا تعني كسب الحرب.
إن كان لا بد من رسم سيناريوهات لما سيحدث، فهو أنّ الدولة العظمى تملك جيشاً وقوات خاصة وأسلحة استراتيجية كفيلة بحسم المعركة، وأنّ معضلة فاغنر أظهرت مصير اليلتسينية التي مهما بدا من تسامح بوتين مع فاغنر نزولاً- عند الوساطة البيلاروسية – لن يكون هناك مكان لمن أظهر الخيانة في ذروة المعركة.. والخيانة هنا يجب أن تخضع للتقدير الروسي المُلم بتفاصيل الحدث ومآلاته. اليوم لم تعد اليلتسينية خياراً، بل خيانة، وأنّ روسيا إمّا أن تكون قطباً بكامل صلاحياته وسلطته أو لا تكون. بوتين لا يريد أن يخون مجد روسيا السُّلافية، أو يغرق في منظومة رأسمالية متمركزة حول الغرب.
يجب قراءة المشهد في التدابير التي اتخذتها قيادة الكرملين، وليس في الإعلام الذي يقرّب البعيد ويُبعد القريب، لسبب بسيط، لكونه إعلاماً حربياً وليس مخصصاً لتنويرنا بطبيعة الحدث.
لم يفقد العالم توازنه، بل هو عالم في سياق تحوّل جيوستراتيجي، ستتغير فيه الأقطاب ويُعاد إخراجه بشكل مختلف. نظام عالمي خارج القطب الواحد أو الثنائية القطبية الخالصة، بل عالم يستقبل أقطاباً متفاوتة وأحلافاً ومصالح ستجعل النظام العالمي الجديد أمام استحقاق توازن الأقطاب والقوى. ولكي تتحقق النقلة من نظام عالمي رجعي بجيوبه الإمبريالية المُقاومة لأي تجديد في المنظومة الدولية، لا بدّ من صراع.. وهذا الصراع واقعي وجدّي وأحياناً ضروري لاستكمال العبور إلى هذا النظام الجديد.
معارك اليوم هي معارك تعزز هذا الاتجاه.. والقارئون للأحداث العالمية خارج هذا النموذج التفسيري، لن يدركوا التحول البنيوي إلى نظام عالمي متشابك عبر اصطفافاته ومحاوره. فالنظام الرأسمالي سيشهد انفجاراً من داخله، أي انفراط عقد منظومة لم تعد قادرة على الوفاء حتى لحلفائها.. فالرأسمالية الرجعية تتآكل ومنظومتها تتهدم وهي تساهم في تفكيك نفسها لمصلحة نمط اقتصادي وسياسي أكثر قوة وانفتاحاً، حيث يشبه النظام الرأسمالي الحالي حالة «الطيب والشرس والقبيح» الفيلم الإيطالي من إخراج سرجيو ليون، وبطولة كلينت استيوود. والحرب الباردة عاصفة بالمنظومة الرأسمالية المتحللة.. فالسلام العالمي رهين بإنقاذ الوضع الدولي من انفجار الوضع.
كاتب من المغرب