في «دوكرة» سرياليّة تعبيريّة.. لا سقف لـ(أسقف) موفّق السيّد في تلويناتها الرمزيّة

تشرين- علي الرّاعي:
في معرض الفنان التشكيلي موفق السيّد المُقام هذه الأيام في صالة (الآرت هاوس) بدمشق، والذي ضمّ الكثير من اللوحات المفعمة لوناً ورموزاً.. يُمكن للمتلقي الإبحار بعيداً في فضاءات من بحار اللون، غير أنّ القوارب لن تنقلك إلى مكان بعيد، فما توهمته بحراً ليس أكثر من زقاق أو ملاءة لنافذة أو طاولة في صالون المنزل.. إنها حالة من الاتساع والضيق معاً، وهي سوريالية لونية اشتغل عليها طويلاً الفنان السيّد من خلال مفارقات كثيرة منبعها حالة من (لا وعي) واسع الحيز وصولاً إلى وعي واقعٍ ضيق الحيز وهش جداً..
إذاً على هذه المُخاتلة اللونية، يقودُ الفنان السيّد مراكبه حيث الدوران والحركة، غير أنّ «الثبات» كان سيّد هذه «الهشاشة» التي هي ملمح هذه البشرية التي لا تجد لها مستقراً آمناً.. فهنا على هذه الأرض لا شيء ثابتاً كما قد يتوهم المرء، وإنما هي من الهشاشة حيث إن أي سيل، أو تسونامي، أو زلزال، وحتى الحروب قادرة وبلحظة «غضب» أو تعكير مزاج أن تمحو كل ما تمّ بناؤه، هل لأجل ذلك كانت شواغل لوحة الفنان السيّد من لون وتكوين وحتى أفكار جميعها تتدلى من الأعلى و«تستقر» كنوع من الخداع البصري في هذا الفراغ السرابي الموحش بين الأرض والسماء؟!
يطلق الفنان موفق السيّد على معرضه (أسقف)، هذا العنوان الذي يحثك على التفكير في حالة من (الديكور)، وإبداعات الهندسة، وعندما تصل وتتأمل اللوحات، فلن يخيب ما توقعته، هنا ستجد حتماً ما رسمته في خيالك من قراءة العنوان وانزياحاته في ذهنك.. غير أنّ الذي ستفتقده هو «ثبات» الهندسة واستقرار قواعدها على الأرض الصلبة.. هنا كل شيء مبني على رمال الخيال لا على صخور الواقع، بل من يدري، فقد تكون صخور الواقع ليست سوى رمل خيال.. هنا لا شيء يُبنى من «أساسات» الأرض، وإنما كل المعطيات التشكيلية تتدلى من السماء في حالة هندسية تكاد تكون صارمة لا انحناءات فيها ولا لين، وإنما تتماهى في مختلف تجلياتها ومظاهرها في استقامات الهندسة وفي حالةٍ من توزيع مذهل للديكور وتوزيع التكوينات داخل إطار اللوحة.. هذه البيوت والأسقف وغيرها من قوارب وتفاح وأشجار وملاءات يوزعها الفنان السيد بتكاوين غير ما اعتاد الفنانون توزيعه في فضاء اللوحة.. صحيح أن الفنان السيّد ترك الكثير من المساحات اللونية كتجريد لوني لتعطي للعين حالة مشهدية ملونة وأمداء بصرية، غير أن هذه المساحة التي كنا نجدها في أعمال الفنانين تخدم «خلفية» اللوحة، وضوءها وحتى رياحها إن جاز التعبير، لكنها في لوحة السيّد نجدها موزعة على مساحة اللوحة مرة في أعلاها، وتارةً في وسطها، وطوراً في مقدمة اللوحة أو أسفلها، وأحياناً نجدها في مختلف جهات اللوحة، لأن السيّد لا يركّز على الكتلة أو تكوينات اللوحة في مقدمة اللوحة، وإنما هي الأخرى يوزعها أينما تيسر له التوزيع في حالة من «دوكرة – الديكور»، تكمن فيها معظم لعبته اللونية والفنية، هنا اللون الذي سيأتي كأهم مكوّن في فناء اللوحة، سواء استُخدم كفضاءٍ لونيٍّ تجريدي، أو استخدم تلويناً للمكونات، فهو الذي سيقع على عاتقه تحقيق معادلة التباين بين المكون والعنصر، ومن ثمّ الاطمئنان لوصول الرسالة الفنية للمتلقي سواء كانت رسالة فكرية أو جمالية بصرية، وتحقيق حالة الدهشة في الخاتمة.
هذه التكوينات رغم سوريالتها العالية في تعبيريتها، فإنها ليست منفلتة أو منزلقة في لاوعيها، كما كانت تظهره لوحات رواد السوريالية، وإنما هنا السوريالية المضبوطة بحبال مهندسٍ فنان، فهي رغم مشهدية الحالة «السابحة» للبيوت والأشجار وغيرها من تكوينات اللوحة، فثمة حبال تمسكها نازلة من الأعلى، من دون أن تشعرنا بقسوة رباطها، بل حتى الحبال التي تتدلى من الأعلى تبدو في حالة من السباحة في فضاء اللوحة، الفضاء الذي كان الفنان كريماً في مدّه اتساعاً إلى حيثما يلتقي الوعي وعدم الوعي معاً في بؤرة لونية مناسبة.. وذلك من كلِّ هذا البناء والتفكيك، أو قل التوزيع الغرائبي لتكوينات اللوحة، وفي هذا المزيج بين التعبيرية والسريالية.. يذكر الفنان السيّد: «الأسلوب فرض نفسه، فللتعبير عن موضوع يجب استحضار واستعارة عناصر مختلفة أحياناً تكون غرائبية.. ولإيصال الفكرة تتداخل العناصر والألوان تارةً نحو التعبيرية الجارفة، وتارةً نحو عدم المنطق، وهو الأقرب إلى السريالية..».

في هذه المعطيات التي تُقدمها لوحة السيّد وضمن هذه «التعبيرية السوريالية»؛ يُمكن للمتلقي قراءة مناخات واقعية لكنها غير منطقية.. على سبيل المثال: قارب يبحر في زقاق ضيق، أو داخل منزل، أو ملاءات وستائر من أمواج بحرية، لكنها أيضاً داخل بيت، أو قد تكون ستارة لنافذة أو ملاءة لسرير أو طاولة، هي من حيث الشكل واقعية صرف، غير أنها لا منطقية من حيث وجودها ومكانها.. وفي هذه السوريالية التعبيرية ثمة فضاء مفتوح من الرموز أمام المتلقي لإعادة قراءة اللوحة بعشرات التأويلات.. رموز للدلالة على حدث أو فعل أو صفة.. رموز مثل: حجر الشطرنج، الكرة الشفافة أو الصلبة، الحبال المتدلية، عقارب الساعة، الطيور والحشرات وغيرها.. بمعنى أن الفنان هنا يستثمر كل إمكانات الاتجاهين: السوريالية والتعبيرية لتقديم حالةٍ رمزية خالصة، ولاسيما أن ثمة مفتاحاً يقدمه الفنان لفك شيفرات الرموز مهما كانت درجة وعي المتلقي، ومن هنا يُمكن لهذا المتلقي – وكما في الكثير من الأعمال السوريالية – أن يقرأ جديداً، أو يقرأ حالة بصرية جديدة، وربما يكتشف رموزاً جديدة مع كلِّ تأملٍ جديد لمعطيات اللوحة.. وربما من هنا نُفسر سر قبولها واستساغتها من قبل المتلقي رغم حالة «عدم المنطقية»، ولاسيما مع براعة الفنان في توزيع ألوانه وتجاورها، وفي هندسة توزيع مكونات اللوحة وتكويناتها.. حيث هنا كان دائماً ثمة فضاء سواء اتسع أم ضاق كان دائماً يُتيحُ للفنان التأليف ونثر الرموز والأفكار والشواغل إما لوناً وإما تكويناً، وعلى الأغلب في تماهي الاثنين معاً.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار