مدرسةٌ من التاريخ «الميثيولوجيا التدمريّة» في ثقافي طرطوس

تشرين- ثناء عليان:
لا تخلو أي حضارة من الحضارات من الميثولوجيا، إذ كانت لكل حضارة ميزاتها الخاصة، فصلتها عن حضارة أخرى، أو قرّبتها في بعض الأحيان، فكان كل شعب يضفي عليها لمسات من الإبداع وبعداً من الخيال والتأمل العميق في التفكير والإحساس المرهف.
هذا ما أكده الباحث خليل الحريري في محاضرته التي ألقاها في المركز الثقافي في طرطوس بدعوة من الجمعية العلمية التاريخية السورية- فرع طرطوس- تحت عنوان «الميثيولوجيا التدمرية… المعابد والآلهة عند التدمريين» بيّن فيها أن الإنسان عدّ أن كل ما يحيط به من الطبيعة مقدساً، وعدّها علامات ظاهرة لأرواح خفية، وهي كالإنسان تتأثر بما يتأثر به في وجوده الإنساني، وتسأل عن أصل الوجود وقوانينه والكون وتكوينه ومنشئه ومصيره وبدايته ونهايته.
ولفت إلى أن الإنسان عبّر عن مختلف أفكاره بآلهة لها أشكال بشرية، فجعل لكل قوة إلهاً ولكل فكرة ربة نسب إليها أعمالاً خارقة، وتخيل لها أخلاقاً وصفات وميزات وعلامات، وذلك بما يتفق مع عاداته ومفاهيمه وفكره في فجر وجوده.. كما اعتقد الإنسان بكائنات إلهية تملأ الكون وتحكمه، فأحبها، وآمن بها، وابتهل إليها، وتقرب منها، وضحى من أجلها، وبنى لها بيوتاً للعبادة والهياكل حتى ترضى عنه، وتخيل أن لكل منها أعمالاً خارقة وصفات خاصة، فتناقلت الأجيال هذه القصص المتوارثة، فكان له تأثيره الكبير في ثقافة الأجيال ومعارفها.
وكانت تدمر في قلب المعتقدات والثقافات الدينية المختلفة لكونها نقطة التقاء الشعوب والحضارات ومحوراً للكثير من الآلهة المتعددة منها الآلهة المحلية والآلهة الوافدة بحكم العلاقات التجارية بين التدمريين والحضارات الأخرى، وكانت للطقوس والشعائر الدينية أهمية كبيرة في حياة الفرد التدمري، وكان هناك عدد كبير من الآلهة المتعددة ذكر الباحث بعضها مثل: الإله بل، وقد تربع على قمة مجمع الآلهة التدمرية وهو يعادل عند الحضارات الأخرى، زيوس عند اليونان، وجوبر عند الرومان، غير معروف أو متأكد متى تبنى أهل تدمر عبادته لكن على الأغلب في العصر الهلنستي حيث العلاقات التدمرية الرافدة قائمة في أواخر الألف الثالثة قبل الميلاد، وإنه من غير المستبعد أن يتفرع عن الإله بل آلهة تعبد بصفات كونية مثل إله القمر «عجليبول»، وإله الشمس «يارحيبول»، إضافة إلى اندماج أسماء آلهة محلية بأسماء الأمكنة أو المواقع التي كانت تعبد فيها.
ومن الآلهة أيضاً الإله ملاكبل، وهو رب الحقول والقطعان، والإله نبو وهو إله رافدي له معبد في تدمر، وهو الابن الأكبر للإله «بل» وهو سيد العلم وإله الحكمة وكاتب الأرباب، والإله بعل شمين، وهو الرأس الثاني لمجمع الأرباب التدمريين، وهو سيد السموات، الإله بلحمون وهو إله المياه الحامية، الربة اللات، «منيرفا، أثين» كانت على رأس قائمة الآلهة التي عبدت في تدمر، وهي الربة المحاربة واللات عند العرب رأس الثالوث الإلهي «اللات، العزة، مناة»، إضافة إلى الكثير من الآلهة التي ذكرت في تدمر.
وبيّن الباحث أن تدمر كانت في فترة ازدهارها مدينة التجارة والعبادة في آن واحد، اجتذبت إليها الناس من كل حدب وصوب، سواء كان ذلك للعبادة وإقامة الطقوس الدينية أو للتجارة أو كليهما، وتطرق إلى بعض الشعائر الدينية التي توضح مدى علاقة الإنسان التدمري بالدين مثل: العيد، الطواف، الأضحية، الوليمة الدينية، تقديم النذور والقرابين، حرق البخور، والكهنة ودورهم في المعبد.
وختم الدكتور خليل الحريري محاضرته مؤكداً أن خصوبة ونضوج الأفكار ونمو الاعتقاد الديني والروحي عند التدمريين ساعد على إنتاج حضاري رائع في كل جوانبه، مبيناً أن آثار وأطلال تدمر مازالت تحكي لنا قصصاً عن صبر أهلها على إنتاج هذه الحضارة المميزة، تاركين خلفهم بصمة واضحة على جبين الإنسانية، فكل حجرة من حجارتها تحتها قصة وفوقها رواية تحدثنا عن أمجاد تدمر وما قدمته للعالم آنذاك، وما زالت تدمر حتى يومنا هذا مدرسةً لمن أراد أن يتعلم التاريخ.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار