فرص من ذهب لتحويل “التراب إلى مصاري” تبحث عمّن يلتقطها.. بين المصيري والاستثماري عصف ذهني في عمق الزراعة والتصنيع
تشرين- رشا عيسى:
يتطلب تثبيت ركائز الزراعات التصنيعية وتوطين زراعات ذات مزايا تنافسية إيجاد مسار ثابت يتخطى الاستثناء بتوجيه عجلة الإنتاج عبر رسم خطة زراعية مزدوجة طويلة وقصيرة الأجل في مرحلة دقيقة نمر بها لأسباب متعددة منها تحقيق الأمن الغذائي، وتأمين ريع مناسب للمزارع المنتج بالدرجة الأولى وتوفير الاستفادة للمستهلك ثانياً، بينما يتوجب عدم التفريط لو بجزء يسير من المساحات المخصصة للزراعات الرئيسة لكونها مصدراً للاستقرار المحلي، وركيزة أساسية لقرارنا السيادي كما يشدد الخبراء في الحقل الزراعي.
توطين زراعات تنافسية
الباحث الزراعي الدكتور مجد درويش أوضح لـ( تشرين) أنه عند الحديث عن الجدوى الاقتصادية وتوطين زراعات ذات مزايا تنافسية، لابدّ من الإشارة إلى متطلبات السوق المحلية التي تتحكم في كثير من الأحيان بتوجيه عجلة الإنتاج الزراعي، وتحديد الفائض منه للتصنيع، ولاسيما فيما يتعلق بإنتاج المحاصيل ذات المزايا الاستهلاكية الموسمية كمحاصيل الخضار، والذي لا نراه شائعاً لدى الكثير من المحاصيل التي من الممكن حفظها وتخزينها أو تخزين منتجاتها المصنعة لفترات أطول، كالقطن والشوندر السكري والذرة الصفراء والتبغ وغيرها.
تنظيم الإنتاج
أكد درويش أنه بهذه المرحلة تبرز أهمية ودور عملية تنظيم الإنتاج الزراعي في رسم إستراتيجيات وخطط زراعية قصيرة وطويلة الأمد تتوافق وحاجة السوق المحلية في الدرجة الأولى، والاستيعاب التصنيعي للإنتاج الزراعي في الدرجة الثانية، وذلك قبل التوجه للسماح بفتح باب التصدير للإنتاج الفائض، والذي يمكن أن يؤثر سلباً على قدرة المستهلك الشرائية ومستوى معيشته، ومدى توفر السلع على مدار العام،
دياب: العقبة الإنتاجية والتسعير ليسا عائقين أمام زراعة القطن والشوندر
وهذا يمكن لحظه في مواسم الإنتاج الوفير للكثير من المحاصيل حيث يترتب عن سوء تنظيم وإدارة القطاع الزراعي فائض لا بأس به من الإنتاج وخاصة محاصيل الخضار الموسمية وما يترتب عليه من أعباء وخسارات مالية يتكبدها المزارع المنتج في تسويق إنتاجه بالنظر لزيادة العرض في السوق، الأمر الذي يستوجب تدخلاً من الجهات المعنية لرفع الأعباء عبر فتح باب التصدير، ما يفسح المجال أمام التجار للاستفادة القصوى من إنتاج زراعي أحوج إلى ريعه المزارع المنتج بالدرجة الأولى، وللاستفادة منه المستهلك العادي في الدرجة الثانية بدلاً من التاجر.
بيئة استثمارية
وجد درويش أنه في ظل عدم وجود بيئة استثمارية ملائمة رغم الجهود الحثيثة التي تبذلها وبذلتها الجهات المعنية من تشريعات وتسهيلات مالية لتحفيز المستثمرين على إقامة صناعة تحويلية للإنتاج الزراعي يمكن لها أن تنافس محلياً وإقليمياً وعالمياً، إلّا أننا سنبقى في حلقة مفرغة أساسها: موسمية الإنتاج الزراعي ومعاناة المزارع من حيث ارتفاع تكاليف إنتاجه الزراعي وانخفاض ريعيته وضعف القدرة الشرائية للمستهلك المحلي، وهنا الرابح الأول والأخير من يتولى تصدير المنتج خارجياً، فضلاً عن المعوقات المتعلقة بآليات الإنتاج الزراعي من حيث محدودية المساحات الزراعية المستثمرة وحلول زراعات في أراضٍ لم تكن مخصصة لزراعتها من قبل، فأغلب المحاصيل الإستراتيجية ذات الأهمية التصنيعية كانت تتوزع بشكل مدروس ومنظم وفقاً لكثير من المعطيات المرتبطة بآلية عمل مشتركة تجمع بين مختلف الوزارات المعنية من زراعة وصناعة واقتصاد وغيرها، من حيث تحديد المساحات اللازمة لزراعتها بهذه المحاصيل وكمية الإنتاج المتوقع وحاجة السوق المحلية والكميات الفائضة المتاحة للتصدير المباشر أم المنتج المصنع، وكانت هذه المحاصيل ذات الأهمية التصنيعية (كالقطن والشوندر السكري والمحاصيل الزيتية، كالذرة الصفراء وعباد الشمس، وحتى التبغ وغيرها…) تزرع في أراضٍ ومساحات محددة، ولكن بعد خروج الكثير من المساحات الزراعية في شرق البلاد وشماله وفي ظل قلة إدخال مساحات زراعية ضمن عجلة الإنتاج، سبب ذلك تخبطاً وسوء تنظيم في الإنتاج الزراعي لهذه المحاصيل، ولاسيما أن أغلب المزارعين المحليين ينقادون في اختيار زراعتهم لمبدأ ريعية المحصول التي كانت تتذبذب وفقاً لكميات الإنتاج الزراعي من عام لآخر وحجم العرض في السوق المحلية.
الزراعة التعاقدية
و لفت درويش إلى أهمية طرح مبدأ الزراعة التعاقدية وتوفير البيئة التشريعية والتنفيذية اللازمة لها كأحد الحلول لمشكلة سوء تنظيم الإنتاج الزراعي الذي نعانيه منذ بدء الأزمة منتصف عام ٢٠١١. فالإنتاج والتصنيع الزراعي سابقاً كان يسير بشكل منظم ومدروس ووفقاً لخطط زراعية إستراتيجية محددة وهادفة.
درويش: متطلبات السوق المحلية تتحكم في كثير من الأحيان
بتوجيه عجلة الإنتاج الزراعي، وتحديد الفائض للتصنيع..
ونتساءل حالياً: أين نحن من إنتاج المحاصيل الزراعية التصنيعية في تلك الحقبة (قطن، شوندر سكري، ذرة صفراء، عباد شمس…) وحتى بالنسبة لمحصول التبغ على الرغم من أنه يخضع لإدارة متكاملة أظهرت نجاعتها من الزراعة للتسويق، وحتى محاصيل الحبوب كالقمح وغيرها. هذا يدفعنا إلى التركيز على ما وجهنا به سابقاً بضرورة تفعيل إدارات خاصة على مستوى المحاصيل المزروعة تعنى بزراعتها وإنتاجها وتسويقها محلياً والترويج لها إقليمياً وعالمياً عبر فتح أسواق مباشرة لها ولمنتجاتها المصنّعة ذات القيمة التسويقية العالية، عندها يمكن القول إن مشكلة الموسمية في إنتاج هذه المحاصيل ستنتفي شيئاً فشيئاً، والقيمة الاقتصادية المضافة ستكون في أوجها بالنظر للأفق التصنيعية والتسويقية التي ستتاح لها.
وأوضح درويش أنه رغم أهمية دعم وتحفيز زراعات أو محاصيل زراعية ذات أهمية غذائية وتسويقية طازجة (كزراعة النباتات الاستوائية) أو تصنيعية أو حتى طبية وعطرية، إلّا أننا في ظل ما يعانيه قطاعنا الزراعي وحاجة السوق المحلية في الدرجة الأولى والمستوى الاقتصادي للمستهلك العادي في الدرجة الثانية فإنه يمكن التركيز على تطبيق هذه الزراعات في المساحات الزراعية المهملة والهامشية وتلك التي لم تكن مستثمرة سابقاً ويمكن الدفع بها إلى حلقة الإنتاج الزراعي.
أيوب: الإنتاج الزراعي وصناعته مازالا بخير بجهود المزارعين والصناعيين..
وستعود هذه المنتجات وبكميات كبيرة إلى الأسواق كافة
أما بالنسبة لزراعاتنا الرئيسة التي تعد مطلباً ملحاً لأمننا الغذائي لا يمكن، ويجب علينا عدم التفريط ولو بجزء يسير من مساحات زراعتها لكونها مصدراً لاستقرارنا المحلي على مختلف الصعد وركيزة أساسية لقرارنا السيادي.
مواصفات مميزة
عضو اتحاد الغرف الزراعية الدكتور مجد أيوب رأى أن الإنتاج الزراعي السوري يتمتع بمواصفات مميزة بسبب الظروف البيئية التي ينمو فيها، حيث كان ولا يزال يتمتع بميزات تنافسية في الأسواق التي يصل إليها سواء كان إنتاجاً نباتياً أو حيوانياً، الأمر الذي كان واضحاً قبل عام ٢٠١٢ عندما كانت المنتجات الزراعية تصدّر إلى كافة دول الجوار وبعض الدول الأوروبية. وكان البيض يصدّر إلى العراق وبعض الدول الأخرى، ويباع بأسعار مناسبة ومجزية للمصدرين والمنتجين، وكذلك أغنام العواس السورية، والأمر ينسحب على الصناعة الزراعية والغذائية التي كانت ولا تزال تصدّر وتوزع في الأسواق المختلفة لكونها تصنّع حسب المواصفات المطلوبة في الأسواق المستهدفة.
ووجد أيوب أنه لا بدّ من التذكير بأن إنتاج معامل الكونسروة التابعة للقطاع العام كانت مرغوبة في الأردن والعراق وبعض الدول العربية الأخرى، وبشكل خاص منتجات البندورة والبازلاء والمشمش، وكذلك الخيوط القطنية السورية وصناعة الألبسة التي كانت وما زالت منتشرة في الدول العربية والأوروبية، لكن للحرب واقعها وظروفها التي أدت إلى توقف عدد من الصناعيين عن الإنتاج والتوجه إلى دول أكثر استقراراً للعمل فيها مثل الأردن ومصر للعمل فيها وتأمين طلبات زبائنهم في الأسواق العالمية والعربية.
مرارة الحرب
أدت الحرب إلى تراجع الإنتاج بكل أنواعه سواء الزراعي أو الصناعي بسبب فقدان الكثير من مستلزمات الإنتاج والمواد الأولية اللازمة له كما يشرح أيوب، والحديث عن المواد الأولية ومستلزمات الإنتاج الزراعي من بذور وأدوية وأسمدة التي لم تعمل أو لم تستطع الدولة تأمينها ما أدى لتراجع الإنتاج الزراعي الخام اللازم للصناعة، إضافة إلى الكهرباء والمحروقات اللازمين لتشغيل المعامل والمواد الأخرى المستوردة التي لم تعد تصل إلّا بصعوبة كبيرة وتكاليف عالية.
صعوبات إضافية
كما واجهت المنتجين الزراعيين والصناعيين صعوبات جديدة إضافة إلى السابقة أهمها الارتفاعات المتتالية لأسعار المحروقات والتقنين الجائر للكهرباء، وتعرضهم لدفع الكثير من المصاريف- غير القانونية- التي تسدد بطرق ليست نظامية ليحصلوا على احتياجاتهم أو لإيصال إنتاجهم إلى الأسواق، إضافة إلى الضرائب العالية جداً التى وضعت عليهم مثل الجمارك والدخل والمالية.
استمرار عجلة الإنتاج
غير أن عجلة الإنتاج الزراعي والصناعي لم تتوقف وفقاً لأيوب، فقد عملت بعض الاتحادات والجهات غير الحكومية مثل اتحاد الغرف الزراعية والغرف الزراعية وبالتعاون مع المنظمات المانحة العاملة في سورية على تقديم مساعدات عينية للعائلات في الأرياف كشبكات ري حديثة وشتول وبذور وأدوية وأسمدة زراعية لمساعدتهم على إنتاج احتياجاتهم المنزلية الخاصة من الخضار وتسويق ما يمكن ويزيد عنهم، وكذلك منح بعض العائلات المستلزمات اللازمة لإحداث مراكز تصنيع زراعي منزلي لتصنيع ما يفيض عن جيرانهم في القرية من الخضار والفواكه أو الحليب بدلاً من تسليمه لتجار الجملة، ثم تسويق إنتاجهم الذي يعدّ إنتاجاً منزلياً في الأسواق القريبة من بيوتهم. وحتى هذه المحاولات لم تتمكن من التطور والوصول إلى الإنتاج الكبير بسبب الصعوبات ذاتها التي واجهت كبار الصناعيين.
دياب: عوائق زراعة القطن والشوندر تتمثل في الموارد المائية المتوفرة
والرغبة لدى الفلاحين، والجاهزية التصنيعية
ورغم كل الضغوط التي تواجه المنتج السوري وخاصة في السنوات الخمس الأخيرة والتي تعود أسبابها كما يبين أيوب إلى إخفاق الحكومات في التعامل مع ظروف الأزمة التي ظهرت خلال فترة الحرب أو بعدها وإلقاء فشلها على العقوبات الاقتصادية وغيرها، وعدم تمكنها من إيجاد الحلول المناسبة للظروف الاقتصادية التى يتعرض لها المواطن، فإنّ الإنتاج الزراعي وصناعته ما زالا بخير بجهود المزارعين والصناعيين وستعود هذه المنتجات وبكميات كبيرة إلى كلّ الأسواق الداخلية والخارجية لتثبت للعالم كله أن سورية هي الوجه الحقيقي للحضارة في الشرق الأوسط.
اهتمام بالغ
من جهته، أوضح مدير الاقتصاد الزراعي في وزارة الزراعة الدكتور أحمد دياب لـ( تشرين) أن وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي تولي العمليات الإنتاجية والتسويقية للمحاصيل الإستراتيجية اهتماماً بالغاً يتجسد بالتخطيط السنوي لهذه المحاصيل والخدمات الإرشادية والبحثية، والتنسيق مع الوزارات المعنية لتأمين ما يمكن تأمينه من مستلزمات الإنتاج، إضافة إلى اعتماد تكاليف الإنتاج وتكلفة الكيلو غرام لكل محصول من خلال لجنة فنية فرعية ومركزية متخصصة تضم ممثلين عن كل الجهات المعنية وذلك بالأسعار الرائجة، ونسب الدعم الحكومي المقدم وترفع لرئاسة مجلس الوزراء لتحديد السعر المجزي للفلاحين.
وأكد دياب أن العقبة الإنتاجية والتسعير ليسا عائقين أمام زراعة القطن والشوندر، بينما العوائق كما حددها من وجهة نظره تتمثل في الموارد المائية، والرغبة لدى الفلاحين، والجاهزية التصنيعة لدى المعامل والمحالج المتوفرة لدى وزارة الصناعة من حيث الحالة الفنية والموارد البشرية وغيرها.