الذاكرة البشرية ليست جديرة بالثقة حتى على المدى القصير!
عندما تكون لدى الناس توقعات راسخة حول ما يجب أن يكون عليه العالم قد تبدأ ذكرياتهم بالتلاشي حتى في غضون ثوانٍ قليلة، فيعملون على ملء الفراغ الناتج من تلاشي المعلومات بتوقعاتهم، وقد تتكون ذكريات الناس من أحداث مغلوطة، ويحصل ذلك معظم الأحيان بعد لحظات قليلة من حصولها، فيعاودون رسم تفاصيلها لتتناسب مع توقعاتهم..هذا ما كشفته دراسة جديدة تسلط الضوء بشكل كبير على أوهام من هذا القبيل في الذاكرة القصيرة المدى.
في هذا السياق، بيّنت دراسات سابقة أن إدراك الناس الحسي لمحيطهم يتحدد بالاستناد إلى توقعاتهم، فيؤدي ذلك إلى ظهور أوهام.
وأظهرت بحوث أن ذكريات الناس الطويلة المدى قد تتكون بطريقة تتناسب مع توقعاتهم، فتظهر في بعض الأحيان ذكريات خاطئة، بيد أنه من المتعارف عموماً أن الذكريات القصيرة المدى المتأتية عن الإدراك الحسي لما حصل قبل ثانية أو ثانيتين، تعطي صورة دقيقة عن المحيط، وفقاً لما كشفه علماء.
وكشفت البحوث أيضاً أنه ضمن نطاق زمني قصير يتراوح بين ثانية وثانيتين، يستطيع الناس أن يصفوا على نحو موثوق ما حصل فعلياً، أو أن يسردوا بثقة، عوضاً عن ذلك، تفاصيل مغلوطة عما توقعوا حصوله آنذاك.
وأكد العلماء أنه حتى ضمن أطر زمنية قصيرة إلى هذا الحد، قد يستحيل الوثوق تماماً بالذاكرة البشرية، بسبب الأوهام التي تجتاح الذاكرة القصيرة المدى.
في سياق بحث سابق، عرضت خلاله على المشاركين صورة حرف معكوس لفترة وجيزة، وقالوا إنهم رأوه بالاتجاه الصحيح، جرى تسليط الضوء مجدداً على الوهم، على الرغم من شكوك بأن يكون الاختبار المذكور مضللاً في حدّ ذاته، بالنظر إلى أن المشاركين لم يروا شكل الحرف جيداً.
لاحقاً، أجرى العلماء أربع تجارب لاختبار هذه الظاهرة في سياق دراسة جديدة.
وخلال التجربة الأولى، خضع المشاركون لاختبار كان هدفه التأكد من أنهم قادرون على إنجاز مهام التذكر البصري البدهي، وعرض عليهم بعد ذلك رسم دائرة عليها ستة إلى ثمانية أحرف، تتضمن حرفاً معكوس الاتجاه أو حرفين.
وكي يتسنى تحوير اهتمام المشاركين، عرضت عليهم بعد ذلك دائرة ثانية اشتملت على رموز كان عليهم تجاهلها.
في المرحلة التالية، طلب من المشاركين اختيار شكل مستهدف محدد ضمن قائمة خيارات أحرف تواجدت في مكان محدد من الدائرة الأولى، وبعد ذلك طلب منهم تحديد مدى ثقتهم بالاختيار الذي قاموا به.
واكتشف الباحثون أن المشاركين صرّحوا بكثير من الثقة أنهم رأوا النظير الفعلي للحرف الذي كان معكوساً.
وعلل العلماء الخطأ في التقدير بالقول إنه ناتج من معرفة المشاركين السابقة بالألف باء، التي أسهمت في تحديد توقعاتهم، ولم يسببه أي تشابه في أشكال الحروف.
وكتب الباحثون في الدراسة أن أوهام الذاكرة هذه تبدو كنتيجة للمعرفة بالعالم، ولم تأتِ عن تشابهات بصرية.
وأظهرت تجارب أخرى، أن الذكريات الوهمية التي يخال الشخص فيها أن الأحرف المنعكسة أصلية تطغى على الذكريات الوهمية التي يخال الشخص فيها أن الأحرف الأصلية معكوسة.
وفي هذا السياق، لفت الباحثون قائلين: سنرى بالتالي، إن جمعنا النتائج، أن المعرفة بالعالم قادرة على رسم معالم الذاكرة، حتى إن كانت الذكريات قد نشأت للتو.
وكشفت هذه الاستنتاجات أن الذكريات الوهمية قد تظهر حتى لو كان الحافز البصري بعيداً من النظر لفترات زمنية قصيرة جداً، في إشارة إلى أنه حتى لو كانت ذكريات الناس حديثة فعلاً، فالاحتمال قائم بأن تكون وهمية.
وختم الباحثون بالقول: إنّ في الأمر إشارة إلى أن الأولويات الداخلية تلعب دوراً حيوياً ليس فقط خلال مرحلة الإدراك الحسي، لكن أيضاً خلال مرحلة التذكر.