“حموضة معدة” لمحمد عامر المارديني وعالم من الفكاهة والمتعة
تشرين – راوية زاهر:
“حموضة معدة” بهذا العنوان اللافت يُصدر الدكتور محمد عامر المارديني مجموعته القصصية عن دار دلمون الجديدة للنشر والتوزيع بدمشق، والتي من سمات نصوصها السخرية والدعابة والمغامرات الشخصية، والتي اتخذها -على ما يبدو- أسلوباً ومادة دسمة لكتابٍ حمل بين دفتيه تسعة وعشرين نصاً.
«حموضة معدة» وإن جاء عنواناً تقليدياً مأخوذاً من إحدى اللوحات القصصية للكتاب، لكنه كعتبة نصية يُلفت النظر بالغرابة، فكانت حموضة المعدة تلك، حاصلة من امتلاء المعدة بكل أصناف الطعام والحلويات وما لذّ منها وطاب، مترافقة بحموضة زائدة للكاتب الذي التقى بصاحبه (حسان)، ولثغته التي ميزته رغم مرور عقود من الزمن ليُحدث حموضةً من نوعٍ خاص عند صديقه الكاتب، وطلبه الغريب في الحصول على شهادة ماجستير أو دكتوراه يتبختر بها بين أولاده وصبيته، ما زاد من حدة الأحماض المتداخلة في المعدة، وما رافقها من تلال الضحك والسخرية، لواقع يبحث فيه المجهول عن شهادة، وما تركته تلك اللثغات بأحد حروف العربية من حالة الاستهزاء والفكاهة في آنٍ معاً.
عن المكان
المكان بدا محدوداً ضمن النص، فلكل نصّ مكانه الخاص، ولكن ضمن مسيرة التقصي، المكان الأكثر حظاً كانت أماكن الأسفار، بوساطة الطائرة؛ فالنصوص تحكي بأسلوبٍ ساخر هزلي بعض المغامرات التي حصلت مع الكاتب ضمن عوالم سفره الكثيرة، فنرى المكان الذي تدور فيه جلّ الأحداث: مطارات، حرم الجامعات.. أضف إلى منزل الكاتب نفسه على اعتباره (بيتوتي).. وقد مالت النصوص القصصية لتكون مشاهدات يومية وأحداثاً خارجة عن المألوف تستحق أن تدوّن، إذ برع الكاتب بأسلوبه الفكاهي إلى استجرارنا بكامل الوعي والشغف لمتابعة هذا السرد القصصي نصاً نصّاً، بفمٍ فاغر وغبطة خاصة، ودغدغة تجتاح المفاصل، فلن تستطيع المرور أمام لوحة (حثان) الصديق صاحب اللثغة من دون أن تدمع عيناك ضحكاً وحبوراً، ولا أمام قبقاب الحارة وما توصل إليه (العضاوات) من دون ابتسامة.. هذا النوع القصصي الباعث للمتعة والمنفعة الفنية في آنٍ معاً؛ حاول الكاتب فيه البحث والوصول إلى الوعي والتناقض والتشويه الذي يطول المجتمع بمعظم طبقاته، والكاريكاتورية التي ترسم أولئك المتسلقين والمنتفخين اجتماعيّاً، كفئة ممجوجة، مذعنة في إذلال الناس، كأمثال ذلك المحلل السياسي العارف بكلِّ شيء، وينظر بما يثير الاشمئزاز، كشخصية مستهلكة تكاد تنفجر من حدة ذكائها وضلوعها بكلِّ شيء، وكذلك شخصية (أبي حديد) المثيرة للصخب والجدلية، وشخصية (ميد إن سيريا)، وشخصية (استخلاج)، وفي نهاية مطافها تجد في العلم شيئاً سخيفاً يمكن الحصول عليه بما ملكت أيمانهم من مال، فيحصلون على شهادات جامعية للتبجح بها فقط.. فالنصوص تمازجت بين التجارب الشخصية والقصص الإنسانية، إذ تمّ السرد بأسلوبٍ ساخر يرسم انفعالات الشخصيات ويبرز تناقضها بشكلٍ غير مباشر، والسخرية تكون من خلال تصرف الشخصيات وأحياناً الصور التي ترسم وصفاً ساخراً: (انفلونزا الحمير، عوربة على وزن عولمة، قبقاب الحارة). والنصوص كذلك قامت على النقد الاجتماعي القائم على السخرية ذات النكهة الواقعية المُطعمة بشيءٍ من الفكاهة، كسطوة الزوجة في مكان سطوة صاحب النفوذ..
والجدير بالذكر أن قصص الأسفار هذه التي وصلتنا على لسان صاحبها بهذه التقنية السردية المبدعة تذكرنا بأدب الرحلات في أزمنة سابقة كالسندباد ومغامراته البحرية، ورحلات المغاربة البرية لتأتينا بحلّةٍ جديدة؛ رحلة الكاتب المارديني الجوية، وفي أروقة الفنادق والمطارات.. وكذلك يعيد إلى أذهاننا ما أبدعه الجاحظ يوماً، وما يسترعي الانتباه؛ هو تلك الاستدارة الشعورية، إذ نقلنا الكاتب من حالة الفكاهة بالابتسامة ذات (النمرة 46 ) إلى انقباضة حزن مُروعة، بسردٍ لقصص واقعية مغرقة في التراجيديا والأسى والحدث المتنامي صعوداً وصراعاً وجودياً حاداً مع قصة (رسالة إلى أم توفيق)، في وصف دقيق ومخيف لواقع غاية في التشظي والأسى. ينقل لنا ذلك الحس المرهف والمسؤول أخلاقياً للكاتب أمام وجع أمٍّ فقدت مُعيلها، لتبحث عنه، ليظهر ثم يعود لرحلة الغياب الأبدية.
عن اللغة :
كما حضر الاستخدام المراوغ للغة، فرأينا المدح في صيغة الذم، والذم بصيغة المدح، والنقد الساخر الناتج عن انفعال في وجدان الإنسان كظاهرة متشبثة بالبنية الاجتماعية، تعطي للساخر المتحدث الضوء الأخضر ليطلق سهامه حيث يشاء في معضلات الواقع وشخوصه الخارجة عن جادة الحق.. وما الهزال في الفن إلّا انعكاس للهزال المستشري في الحياة، اجتماعياً وإنسانيّاً وأخلاقياً وعلمياً.. جاءت اللغة باذخة، محكية في مواقع كثيرة لتعكس حقيقة الوقائع، أضف لجزالة الألفاظ وقوتها وشاعريتها أحياناً بما تحمله من جودٍ وبلاغة في مطارح أخرى..
عن الأنسنة
(الأنسنة)، تقنية سردية استخدمها الكاتب مذكراً بقصص كليلة ودمنة لابن المقفع؛ كقصص وحكايات على ألسنة الحيوانات تعكس واقع البشر، وما أتى به الكاتب المارديني في قصة (حديث حيوانات) وتلك القطة الشقية واستعفافها عن القبول بالتزاوج ممن يحملون صفة الحمرنة والكلبنة والتياسة جعلها تندم ساعة لم ينفعها الندم، إذ ترك الباب مفتوحاً أمام مجتمع شقي تجول فيه هذه الصفات بكل ثقة ولطف وكياسة ووظفها على ألسنة شخوصه الحيوانية ببراعة وإتقان.
عن الوصف
فيما جاء الوصفُ باذخاً هو الآخر وليس للترف اللفظي، بل هو استحضار جليّ للشخصيات ومكانتها وإمكانيتها فنياً ومتعوياً. فالكتاب فيه من المتعة والطرافة والمشاعر الخاصة ما يأخذ بلب القارئ.. والجدير بالذكر أن المارديني كان وقّع: (مقصات ناعمة، قصص منحرفة، حموضة معدة) دفعةَ واحدة في صالة ألف نون بدمشق، وهي مجموعات قصصية للكاتب..