أخطر أنواع البطالة وأكثرها إحراجاً لأصحابها… مهن راقية «جاحدة لأبنائها» وخبراء يشيرون إلى أسباب اجتماعية وثقافية وتنظيميّة
تشرين- باسم المحمد:
من يشاهد المحامي علي اليوم لن يتعرف عليه إن كان يعرفه منذ 15 عاماً، حيث كان طالباً جامعياً ويعمل في الوقت نفسه في دكان لبيع الخضراوات يملكه أخوه الأكبر، وكان دخله جيداً يكفيه للعيش برفاهية نسبية مقارنة بحاله اليوم بعد أن نال شهادته وأصبح محامياً، يلبس الطقم ذاته منذ سنوات وتغيرت ملامحه من شاب جامعي مقبل على الحياة إلى إنسان مثقل بالهموم المعيشية، لأنه، حسب ما بين لـ«تشرين» ترك العمل في دكان أخيه الذي لم يعد يناسبه بعد أن أنهى “الأستذة” وتوجه إلى المحاكم لممارسة المهنة التي أخذت دراستها زهوة شبابه، ليفاجأ بأن تأمين القضايا لتحقيق دخل يناسبه أمر صعب في ظل زحمة المحامين، وتفضيل من لديهم قضايا “محرزة” لمكاتب لها سمعة في هذا المجال، وهذا ما أوقعه بين صعوبة العودة إلى عمل لا يناسب شهادته، وبين البطالة التي تنخر عقله يومياً عند محاولته تلبية احتياجات أسرته، مشيراً إلى أنه حاول منذ فترة العودة للعمل مع أخيه، لكن أخاه رفض الفكرة خوفاً من كلام الناس بأن المحامي يعمل صبي “خضرجي”، فانطبق المثل القائل “رضينا بالهم والهم ما رضي فينا”.
حال «علي» لا تختلف كثيراً عن حملة شهادات تعليمية عليا جامعية باختصاصات معينة لا تمكن صاحبها من تأمين فرصة عمل في مجال آخر، مثل الصحفية يارا التي حازت الشهادة الثانوية العامة في الفرع الأدبي بعلامات عالية، وبناء عليها سجلت في قسم الصحافة، وهي الآن بعد تخرجها وجلوسها في المنزل بلا عمل تتمنى أن تعود بها الأيام حتى تدرس في كلية التربية أو في معهد ملتزم مهما كان كصديقاتها اللواتي يعملن وحصلن على فرص عمل جيدة مقارنة بوضعها.
ولا يعني الحصول على فرصة عمل لدى الجهات التي تلتزم بتعيين بعض الشهادات الجامعية أن هموم البطالة النوعية انتهت، كما هي حال المهندس عبد الرحيم الذي عيّن بعد تخرجه في إحدى الجهات الحكومية، وعندما أنهى فترة التزامه مع الدولة قدم استقالته واتجه للعمل في القطاع الخاص، لكن بعد الحرب وجد نفسه بلا عمل، بسبب الدمار الذي لحق بالشركة الخاصة التي كان يعمل فيها كمدير إنتاج، والآن لا يجد من يقدر شهادته وتراكم خبراته لتشغيله، حيث أجرى مئات المقابلات لكن عروض الرواتب لم تحقق له معيشة كريمة، مبيناً أنه عمل على تكسي أجرة لفترة قصيرة لتدبر أمره ريثما يجد فرصة مناسبة، لكن صاحبها طرده لأنه لم يحقق إيراداً كسابقه، قائلاً له إنه يحتاج إلى شخص أميّ يحمل شهادة سياقة قادر على التعامل مع كار القيادة وهمومه، ولا يحتاج إلى متعلم “آدمي”.
عوامل ثقافية واجتماعية
أطلق الخبير الإداري الدكتور إياس الحمدان على ما ذكرناه سابقاً بطالة المؤهل أو ما يعرف أحياناً بالبطالة النوعية أو ببطالة أصحاب المؤهل، وهي ناجمة عن حصول المواطن على مؤهلات أو شهادات تؤهله للعمل، لكنه لا يعمل، مشيراً إلى أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تعد من أكثر المناطق تأثراً بهذه البطالة، ويكمن السبب الرئيسي في الشرخ الكبير بين ما يطلبه أصحاب العمل وما يعرضه طالبوه من مؤهلات، فقد نجد حملة شهادات ثانوية عامة أو جامعيين أو حاصلين على شهادات عليا (ماجستير ودكتوراه) لا يعملون، أو يعملون في نشاطات وأعمال لا تتوازى مع مؤهلاتهم، وهذا ما يؤدي إلى فجوة كبيرة في سوق العمل .
وأعاد الحمدان السبب الرئيسي وراء هذه الفجوة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى عوامل ثقافية واجتماعية تقوم على تنشئة الأبناء وشغف أهلهم بالحصول على مناصب عليا، ما يدفعهم إلى تجميع العديد من الشهادات والمؤهلات التي قد يكون جزء منها مفيداً وملبياً لاحتياجات سوق العمل، وقد يكون غير ذلك، الأمر الذي يمنعهم من الحصول على عمل، فهم يرون في أنفسهم مؤهلين كفاية لشغل أي منصب كان، وتالياً لن يقبلوا بالعمل في وظيفة عادية بمرتب عادي، مقابل تعبهم للحصول على شهاداتهم ومؤهلاتهم، لذلك المشكلة هنا اجتماعية تبدأ منذ الطفولة عندما يزرع الأهل في أبنائهم أن مستقبلهم يعتمد على الشهادات النوعية وتجميع أكبر قدر ممكن منها، لذلك يبتعدون عن المهارات الحرفية والفنية ليفاجؤوا مستقبلاً بأن ما يطرح في السوق لا يتناسب مع ما بذلوه من جهد وتكلفة ووقت في تحصيلهم العلمي، ويصبحون عاطلين من العمل على الرغم مما حصلوه من شهادات ومؤهلات.
والسبب الآخر الذي يمكن طرحه، حسب الحمدان، حول بطالة حملة الشهادات، هو افتقارهم لسلوكيات العمل ومهارات العمل التي يحتاجونها عند العمل على أرض الواقع، لأنهم درسوا كثيراً وحصلوا ربما على مؤهلات أخرى تكمل دراستهم، لكنهم يفتقرون إلى مهارات بسيطة تلزمهم، لذلك نجد شخصاً منهم انخرط في العمل أثناء تحصيله الجامعي ناجحاً أكثر من أقرانه الذين اقتصر تحصيلهم على الأمور النظرية، ولم يكتسبوا بعض المهارات التي يحتاجها سوق العمل، من مهارات تواصل شفهي أو كتابي أو الوقوف خلف قيادة فريق العمل أو التعاون معه، وغيرها من مبادئ العمل التي قد تكون ثانوية لكنها مهمة، وذلك مرتبط بما قلناه بالموروث الثقافي، إذ هناك الكثير ممن يسافرون للحصول على فرص عمل تلبي ما يحملونه من شهادات يعملون أعمالاً إضافية لم يقبلوا سابقاً بالعمل أو حتى التفكير فيها أثناء دراستهم في بلدهم، في المطاعم، أو موزعي صحف وغيرها، وقد تحقق لهم هذه الأعمال الجانبية النجاح في مسيرتهم المهنية لأنهم سيكتسبون المهارات التي لم يحصلوها أثناء دراستهم.
وبرأي الحمدان فإن القبول بأي عمل لحملة الشهادات النوعية في بداية مسيرتهم العملية أمر مفيد لتحصيل بعض المهارات الجانبية وفي الوقت نفسه ضرورية، وحتى موضوع الأجور فالخريج حديثاً يحلم بأجر عالٍ منذ اليوم الأول يناسب تعبه الدراسي، فينتهي به الأمر عاطلاً من العمل، يراسل الشركات من دون الحصول على فرصة عمل.
ولفت الحمدان إلى ضرورة تغيير المفاهيم التقليدية في الحصول على العمل، لأن قاعدة الحصول على العمل بعد انتهاء التحصيل العلمي انتهت، وحالياً العمل أثناء الدراسة أمر أساسي في معظم الدول المتقدمة، ففي كثير من الدول أصبح يفرض على الطالب في المرحلة الإعدادية أن ينهي عشر ساعات عمل شهرياً كمتمم لدراسته في أي مكان عمل، ناصحاً الخريجين بقبول أي عمل ولو كان مجانياً لإنجاح مسيرتهم المهنية في مجال تخصصهم، مع التنويه إلى ضرورة أن يتم ربط العمل في فترة الدراسة مع متطلبات السوق والاختصاص بشكل دقيق، وفي حال عدم وجود ترابط بين العمل والدراسة، يمكن دائماً العمل على حقن العمل التمهيدي بما اكتسبه الدارس من جامعته.
الاستثمار الخاطئ
خبير المخاطر ومدرب الموارد البشرية الدكتور ماهر سنجر بيّن أنه من الجيد اليوم الحديث عن مخاطر من فئة خاصة وهي المخاطر التشغيلية التي ترتبط بالعنصر البشري لكون خصوصية هذه المخاطر تتأتى من الوصول إلى أعلى درجات السلم الوظيفي، أو الحصول على مناصب فخرية أو مناصب سيادية تجعل من شاغلها عرضة أكثر من غيره للبطالة، إضافة إلى حجم الخبرات العالية والتأهيل العلمي الكبير الذي قد يجعل من مالكيها عرضة أكثر من غيرهم للبطالة الاحتكاكية المؤقتة إلى حين الانتقال إلى عمل، أو يجعلهم عرضةً لنوع خاص من البطالة التي تنتج عن عدم قدرة سوق العمل على استيعاب هؤلاء مجدداً، أو عدم قدرة الشركات أو الفعاليات الاقتصادية على استثمار هذه الموارد البشرية وذلك نتيجة للتقلبات في الظروف الاقتصادية العالية.
وحسب سنجر، فإن الاستثمار الخاطئ في الاختصاص الدراسي من الشخص نفسه، أو نتيجة للسياسات التي اتبعت لتوجيه الطلبة باتجاه اختصاصات معينة قد يجعل أيضاً من الاستثمار في هؤلاء الطلبة استثماراً خاطئاً نتيجة للأزمات الاقتصادية أو نتيجة للتطور التكنولوجي الذي قد يؤثر في الطلب على هذه الاختصاصات ويجعلها عرضة للبطالة.
مقترحات
وبرأي سنجر، من الضروري اليوم مراجعة السياسات القديمة تجاه سياسة توجيه الطلبة نحو تخصصات معينة لمقابلة سوق العمل واعتماد نظام لمراجعة هذه السياسات سنوياً، كما يجب وضع مصفوفة تتنبأ بالاحتياجات الجديدة لسوق العمل من الاختصاصات، حيث إنه في ظل التحول الرقمي والذكاء الصنعي وإنترنت الأشياء ستختفي كثير من الأعمال مستقبلاً لتستبدل بحاجات أخرى.
ومن الجيد إنشاء قاعدة بيانات وطنية خاصة بأصحاب الخبرات العالية والمؤهلات العالية أو من استلم مناصب قيادية وأثبت قدرته خلال فترة عمله بحيث يتم استخدامهم كمظلة ذهبية في ظل برنامج وطني شامل لنقل المعرفة والربط بين خبرة الماضي ومتطلبات المستقبل.. وأيضاً كنوع من تكيف الخدمات والمنتجات مع متطلبات هؤلاء، لا بد للمؤسسات المالية من أن تساهم بابتكار منتجات تساعد على منح هؤلاء الفرصة لتأسيس أعمال نوعية تتوافق وطبيعة خبراتهم.
أخيراً
تنطبق حال مواردنا البشرية، التي تصنف عالمياً بأنها من أهم الثروات التي تمتلكها الأمم، على حال الكثير من مواردنا الاقتصادية الأخرى التي لا نحسن استثمارها، وتوجيهها لتحقيق تنمية اقتصادية اجتماعية شاملة، فكثافة الاختصاصات الجامعية، ومئات آلاف الخريجين سنوياً، تشبه إنتاجنا الضخم من الحمضيات، لكنه في الوقت نفسه أصبح عبئاً على المنتجين والاقتصاد الوطني بسبب غياب الاستراتيجيات الواضحة في كل مراحل حياة هذا المحصول بدءاً من اختيار الأصناف وانتهاء بالتصريف.